إدوارد سعيد وأسطورة الاستشراق «1»

  • 4/5/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إدوارد سعيد - لمن لا يعرفه؛ من عمالقة الفكر فى القرن العشرين، وضمن القلّة الأكثر تأثيرًا فى العالم المعاصر. عربى الأصل، وُلِدَ بالقدس عام ١٩٣٥، عاش في القاهرة فترة صباه، عمل أستاذًا للأدب فى جامعات عالمية عديدة، ثم استقر فى جامعة «كولومبيا» بالولايات المتحدة الأمريكية كأستاذ للأدب الإنجليزي. وفى عام ١٩٧٨ أصدر كتابه الأكثر ذيوعًا فى العالم (The orintalism) أو الاستشراق. ليرحل المفكر العظيم عام ٢٠٠٣، بعدما ترك بصمته الفكرية فوق جبين الإنسانية. يُعَد سعيد؛ الكاتب العربى الوحيد، الذى تصدى للغرب فكريًا، ليس بلغته فقط، إنما بمنهجه العلمى فى البحث، إذ أماط اللثام من خلال مؤلفهِ العالمى «الاستشراق»، عما يَخفيهِ الرجُل الأبيض من وجهٍ شائه، تحت قناع مزيَّف من الزعم بالثقافة ومظاهر التحضر، واختراعه لصكوك الوصاية على العالم وقد ابتاعها لنفسه، ومن ثم أعطى لذاته العليّة عبر نظرة أحادية متعجرفة، حق تحمُّل مسئولية رقى الإنسان - غير الأوروبي، والأخذ بيده لعتبات التمدُّن. بأسلوب أدبى ساحر، لا ينفك عن كونهِ نقدى لاذع - وموجع، شرح سعيد فى مؤلفه الفريد عن: الدوافع الحقيقة وراء تطوير الثقافة الأوروبية لنفسها، وأنها ليست بريئة بشكل كامل؛ إذ يطغى عليها - بشعور ومن دون شعور- طموحات مادية صرفة، واستعمارية (Colonialism) شرسة وبربرية، لاستعباد الشعوب الأخرى، وإقناع الجماهير الأوربية بازدرائها، والتأصيل لذلك فى قناعاتها المستقرة؛ لاستنزاف ثرواتها، وامتصاص دمائها الحية بمنتهى الأريحية. فقد نثرت تلك الحضارة الوليدة بذور التنمُر الفكري، والتمييز العنصري، أعلى مرتفعات بافاريا، وفى أعماق السهوب الإنجليزية، وسقتها روافد الدانوب والتيمز، فأنبتت بارودا فتّاكا وقنابل سالخة! ولا يكُف سعيد عن إسقاط داناته الثقيلة فوق الجسد الأبيض؛ فأوروبا ترى نفسها مقصد التاريخ الكونى univeral history، وأنها مركز العالم «euro-centrism» ؛ اقتداءً بلفظة الإغريق البرابرة «Barbarian» عن الشعوب - غير الإغريقية. فالتاريخ الحقيقى للإنسانية تاريخ أوروبا وحده ؛ لذا نفت أوروبا صلتها بقارة آسيا - التى هى فى الواقع جزء منها؛ عَمِدَ الأوروبيون طمس كلمة «Eurasia» أوراسيا (التلاحم الجغرافى بين أوروبا وآسيا)؛ وأتموًا هذه المهمة بمنتهى التعجرف الحضاري، والتحايل الجغرافى، والتظليل المعجمى؛ ثم انطوت على نفسها بجنسها الآرى «Aryans» ؛ وعكفت تحوَّل تفوقها العسكرى العدواني، جشع اقتصادها المسعور، إلى تفوق أخلاقي، وثقافى، وديني، الغرض منه - فى الواقع - خَلق مسوغات أخلاقية مزيفة، وعنصرية شديدة الوطأة؛ تتسامى بالذات الأوروبية، لما عساهُ يرفعها لمنصب سادة البشر. يكمن دور سعيد المحورى أنه غيَّرَ المفهوم الاصطلاحى لكلمة «الاستشراق»، من مدلول جليل ومرموق فى نظر العالم، يهدُف بإخلاص إلى هدف سام؛ ألا وهو فهم ثقافة الشعوب الأخرى والمزج بين الحضارات، إلى مصطلح لا يؤخذ كما هو منزهًا عن النقد، إنما جعله محملًا بشبهات أخلاقية وفكرية، بل وربما فاجأ سعيد المستشرقين المعاصرين أنفسهم بهذه الرؤية الألمعية، إذ أشهر فى وجوههم دلائل إمعان الحضارة الأوروبية، فى التكريس لعملية القمع التى طالت كل الأجناس البشرية على يد الرجل الأوروبى - الأنجلوفرنسى تحديدًا، وارتباط الاستشراق - وما تفرع منه - بالدور الاستعمارى لأوروبا! أحدث الكتاب دويًا عالميًا ؛ وعلى غرار المثل القائل «يكاد المريب أن يقول خذوني» ؛ غالى الغرب فى التبرير لمضمون كتاب الاستشراق تارة، ثم محاولة نفى سعيد تارة أخرى؛ فقد استغرق برنارد لويس (مفكر غربى متعصب) أربعة أعوام للرد على سعيد، وأفردت له جريدة «الواشنطن بوست» خمسة عشر ألف كلمة للهجوم عليه. بدلًا من قتل الفكرة فى مهدها، تحول كتاب الاستشراق إلى الكتاب الرسمى «Manifest» لمراكز الدراسات البحثية المناهضة للكولونيالية والتمييز العنصرى لمختلف دول وأجناس العالم. وفى النهاية اكتفى الغرب فى صمت بإدانة نفسه بشكل لائق قدر المستطاع. لذلك أعتقد أنه من المنطقى جدًا؛ أن يخرج لنا «أدولف هتلر» بالنازية «nazeb»، فقد انبثقت من الرحم الأوروبى - العنصرى - نفسه، وانقلب السحر على الساحر، وباتت أوروبا مثل الجسم الذى يهاجم نفسه، فالنازية فى الواقع؛ عنصرية أوروبية ضد عنصرية أوروبية. ونستكمل فى مقالٍ تالٍ.

مشاركة :