الاستشراق ... الإشكالية والمنهج في أطروحة إدوارد سعيد

  • 11/18/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

لا يزال علم الاستشراق من أكثر العلوم الإنسانية إثارةً للجدل بين مؤيدٍ له كمجالٍ للتلاقح والتثاقف بين عالمين مختلفين يصل بهما الاختلاف إلى حد التناقض وبين معارضٍ له حيث تقبع افتراضية سوء الغرض من كينونته التي من أجلها كان ونشأ. وتناول الكثير من الباحثين موضوع الاستشراق بكثير من التفصيل ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر بعض الباحثين الذين لهم باعٌ طويل في تناول هذا الموضوع؛ مثل فيليب حتي ونجيب عقيقي وصولاً إلى إدوارد سعيد في كتابه الأشهر؛ “الاستشراق”. في البداية، يطرح إدوارد سعيد تساؤلاً مفاده أنه على المرء أن يتساءل - بصورة متكررة - إن كانت المسائل في الاستشراق هي مجموعة عامة من الأفكار، فلا يمكن الإنكار أنها كانت أفكاراً مشبّعة بمذاهب التفوق الأوروبي، وبشتى أنواع العنصرية العرقية والإمبريالية وما إليها، وبأفكارٍ جامدة عن الشرقيّ بوصفه تجريداً مثالياً، ولذلك فإن الاستشراق ليس مسألة موضوع أكاديمي مجرد أو حقلاً انعكس بصورةٍ سلبية في الثقافة والبحث، كما أنه ليس مجموعة نصوصٍ منثورة ومنشورة عن الشرق كما لا يمكن اعتباره أيضاً ممثلاً ومعبراً عن بعض ما يعتري الذهنية الغربية وفكرتها عن العالم الشرقيّ، بل إنه تقريباً – ومن وجه نظر إدوارد سعيد- يعدُ توزيعاً للوعي الغربي في نصوصٍ جمالية وبحثية واقتصادية واجتماعية وتاريخية، وأيضاً فلسفية. هو جهد، ليس للتميز الجغرافي الأساسي من حيث إن العالم مصنوع من نصفين شرقي وغربي، ولكن الاستشراق امتلك حد ما هو أكثر من ذلك، فعبرّ عن إرادة معينة أو إرادة للفهم والإدراك عن كنه الشرق وتكوينه السيكولوجي والسوسيولجي (الاجتماعى) وهنا يلقي الكاتب الضوء على الأسئلة المثارة بقوة في علم الاستشراق ويوجزها في ما يلي: ما هي الأنواع الأخرى من الفكر والجماليات علوم البحث والطاقات الثقافية التي دخلت في خلق تراث لا يخلو من النزعة الإمبريالية كتراث الاستشراق؟ كيف خدم الاستشراق فقه اللغة؟ وعلم المعاجم والتاريخ؟ وهل هل أثّر في الرواية والشعر الغنائي؟ ويطرح الباحث سؤالاً: ما هي رؤية الاستشراق بعامة للآخر، وهل توجد تنقية وتشذيب داخل علم الاستشراق نفسه؟ وما معنى الأصالة والاستمرارية والفردية في علم الاستشراق وكيف ينقل الاستشراق أو يعيد إنتاج نفسه من مرحلةٍ إلى أخرى؟ ويصل الباحث إلى السؤال الجوهري: كيف يمكننا أن نتعامل مع الظاهرة الثقافية والتاريخية للاستشراق كنوعٍ من العمل الإنساني بصرف النظر عن المُحددات التي شابت الاستشراق كعلمٍ لم يخل من النظر شذراً إلى دوافعه وأهدافه؟ إن التقارب بين السياسة والاستشراق، أو لنقل بصورة أكثر احتراساً، إن التشابه الكبير لتلك الأفكار عن الشرق المشتقة من الاستشراق التي يمكن أن توضع موضع الاستخدام تكتسب أهميتها من أنها تطرح أسئلة عن النزوع الطبيعي للبراءة أو الإدانة في الغرض من طرح الأسئلة المتعلقة بالشرق. تلك الأسئلة التي تستفز الشعور بالقلق في ضمير الشرقيين؛ خصوصاً أنها تميل نحو التعميمات الثقافية أو العرقية أو التاريخية، وحقيقة الهدف من طرحها ومدى درجة الموضوعية فيها ونياتها الأساسية. هذا غير أنه لا يمكن تجاهل فرضية أن الظروف الثقافية والتاريخية (الزمنية) التي ازدهر فيها الاستشراق تنحو نحو النظرة المتعالية للشرق وتنظر إليه نظرة متعالية كموضوعٍ للدراسة، فعلى مستوى الإشكالية – كما يدلل الباحث مستشهداً برأي أنور عبد الملك- يُعد الاستشراق موضوعاً للدراسة مطبوعاً بشيء آخر بوصفه كل ما هو مختلف، سواء كان فاعلاً أو موضوعاً للفعل (مفعولاً به) وموضوع الدراسة هنا سيكون – كما هي العادة – سلبياً، لا مشاركاً؛ وفوق كل شيء غير فاعلٍ، غير مستقل الوجود، غير ذي سيادة بالنسبة إلى نفسه. والشرق الوحيد أو (الفاعل) الذي يمكن أن يُعترف به – في الحد الأقصى – هو ذلك الكائن المغرّب المُستلَب فلسفياً، أي شيء آخر غير ذاته بالنسبة إلى ذاته. هو مموضع، مفهوم، محدد، من جانب الآخرين وفقط الآخرين. يؤكد إدوارد سعيد أن الاستشراق اعتمد – في منهجيته – على الغرب أكثر من الشرق، والأمر هنا لا يخلو من مفارقة تصل إلى حد التناقض؛ حيث إنه اعتمد على الذهنية التي أنجبته أكثر من اعتماده على بيئته الأصلية التي أنتجته، وارتكن أيضاً إلى تقنيات تجسيد وتمثيل تجعل الشرق مرئياً في الأشياء المتعلقة به. وتعتمد هذه التجسدات على مؤسساتٍ وتقاليد وأعرافٍ، ونظم للإدراك الحسي. والفرق بين تمثيليات الشرق قبل الثلث الأخير من القرن الثامن عشر وتلك التي تلته (أي التي تعود إلى ما ندعوه استشراقاً حديثاً) في أن مجال التمثل اتسع في شكلٍ كبيرٍ. ومن الصحيح أنه بعد حملة نابليون على مصر؛ جاءت أوروبا لتعرف الشرق علمياً أكثر؛ ولتعيش بسلطةٍ أعظم وبانضباطٍ أكثر مما كان قبلاً. ولكن؛ ماذا حدث لأوروبا؟ كان المشهد قد اتسع ودرجة الصفاء في رؤية الشرق أضحت أكثر وضوحاً، ووُلدَ عالم جديد أشد وضوحاً من ذي قبل وظهرت شبكة قوية من الاهتمامات المرتبطة بالشرق في الآداب والفنون. وإذا كان جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه من بين الفوقية الغربية؛ بالمقارنة بالحالة الشرقية، فإن علينا أن نكون مستعدين لملاحظة كيف أن الاستشراق – في تطوره وتاريخه – عمّق هذا التمييز، بل أعطاه – أيضاً – صلابة وثباتاً. ومثلّت خبرات الحملة الفرنسية في الشرق جسد معرفة في الغرب حيث ترعرع الاستشراق في بيئةٍ مواتيةٍ له، اذ كان يوجد في كل مكانٍ بين الشرقيين ذلك الطموح لتحقيق مكتشفاتهم وخبراتهم ونظراتهم الثاقبة وبلغةٍ حديثة لوضع الأفكار عن الشرق. وفحوصات رينان اللغوية عام 1848 مثلاً؛ صيغت بأسلوبٍ جعل الاستشراق مثل الكثير من العلوم الطبيعية والاجتماعية؛ له منطلقات للبحث وجمعيات علمية، وباتت له مؤسساته الخاصة. وخلال القرن التاسع عشر؛ اكتسبت تلك المؤسسات امتيازاً متعاظماً، مثل (الجمعية الآسيوية) و(الجمعية الألمانية للدراسات الأجنبية) وغيرهما. ومع تنامي هذه المؤسسات؛ ازدادت كراسي الأستاذية في الدراسات العرقية. ونتيجة لذلك، توسّع مجال الوسائل المتاحة لنشر الاستشراق وتضاعفت دورياته مثل مجلة “مناجم الشرق” 1890 وتضاعفت تخصصاته. وأخيراً؛ يقر إدوارد سعيد بأن كتاب “الاستشراق” مرتبط بفاعلية مستمرة بالتاريخ المعاصر. وفكرة سعيد نفسه عن هذات العلم إنما هي استخدام النقد الإنساني بُغية فتح مجالاتٍ أكثر قابلية للفهم بعيدة مِن التنميط، وتقديم توالي أفضل للفكر والتحليل ليحل محل الهجوم العنيف على الآراء، وطرح أفكار مستجدة مِن مختلف الرؤى بهدف التغلب على حال الاشتباك في قضية الهوّية الجماعية التي ما فتئت تطرح بين الفينة والأخرى.

مشاركة :