في خطبته بجامع الخالد بالمنامة تحدث خطيب الجامع الشيخ عبدالله بن سالم المناعي عن مناسبتين مهمتين: الأولى عظيمة وعزيزة، وهي قدوم شهر شعبان، والثانية مثلجة للصدور ودافعة إلى الفخر والاعتزاز، وهي اختيار مدينة المحرق عاصمة للثقافة الإسلامية. ففي حديثه عن قدوم شعبان قال الشيخ عبدالله المناعي: لقد أتت سُنَّة التدرُّج في الإنسان على جميع أجزائه، حتى إنَّ عقلَه ليتدرج في نموِّه، وتتَّسع مداركه لاكتساب المعارف، ويتدرَّج في سلوكه للتحلِّي بالفضائل، وتكون سرعته في الترقِّي بحسب عزْمه وهمَّته وعمله؛ فكلما كان عزْمه أقوى، وهمَّته أعلى فإنَّه يسبق أقرانه، ويُدرك من كانوا أمامه. والله سبحانه وتعالى حين شرع الشرائع للبشر، فإنَّه عزَّ وجلَّ راعى سُنَّة التدرج فيهم، فجاءت أوامره ونواهيه متدرِّجة؛ لِيُوافِق الأمرُ الشرعي تكوينَهم الخَلْقِي، فلا يكون بينهما تنافر ولا تعارض، وهذه حكمة الحكيم العليم، «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» [السجدة: 7]. إنَّ البشَر لا بد أن يُؤْخَذوا بالتدرُّج في أمورهم كلِّها، فهم لا يستطيعون الامتناع فجأةً عما أَلِفوا، ولا الامتثال الفوري لِمَا لم يعتادوا، ومثال الأول: التدرُّج في تحريم الخمر؛ إذْ نزَل على أربع مراحل، ومثال الثاني: التدرُّج في فرْض الصَّلاة والصيام، وكان على مراحل أيضًا، وقد بيَّن معاذٌ رضي الله عنه سبب ذلك فقال: «وكانوا قومًا لم يتعوَّدوا الصِّيام، وكان الصِّيام عليهم شديدًا». رواه أبو داود. بل أعجب من ذلك أنَّ الله تعالى بعِلمه بطبيعة البشر، وحكمته في التشريع لهم؛ شرع للفرائض البدنيَّة مقدِّمات تكون قبلها إذا حافظ المكلَّف عليها فإنَّها تهيِّئه لها، وتعينه عليها، وتجعله يتلذَّذ بها؛ ذلك أنَّ القلوب والأبدان تحتاج إلى ترويض وتدريب على فعْل الطاعات، والكفِّ عن المحرَّمات، وينبغي تهيئتها لذلك حتى تجد لذَّة في الامتثال؛ ولئلاَّ يكون فعل الطاعة أو الكف عن المحرم ثقيلاً عليها. ففي الصلاة شرع الله تعالى الوضوء، وجعله شرطًا لها، وشرع التبكير إلى المسجد، والمشي إليه بسكينة ووقار، والدنُوَّ من الإمام، وجعل ذلك من سُنَنها، بل يُحسب ذلك صلاة له، وفي الحديث: «لا يَزَالُ أحدُكم في صَلاةٍ ما دَامَت الصَّلاةُ تَحْبِسُه»؛ رواه الشيخان. كل هذه الأعمال من أجْل أن يتهيَّأ ويستعد المصلِّي للفريضة؛ فيؤدِّيها بخشوع وطمأنينة، وحرِيٌّ بمن حافظ على هذه المقدِّمات للصلاة أن يجد في صلاته خشوعًا ولذَّة، لا يجدها مَن فرَّط في مقدماتها. وتأمَّلوا عباد الله حكمةَ الشارع الحكيم حين شرع الصيام في شعبان، حتَّى كان أكثرُ صيام النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان، وفي بعض الروايات أنه كان يصوم شعبان كلَّه إلا قليلاً منه، وفي روايات أخرى أنَّه صام شعبان كلَّه. فكان الصيام في شعبان مقدِّمةً تهيِّئ المكلَّف لصيام رمضان، ومعلوم أنَّ مَن أكثر الصيام في شعبان كفَّ عن كثير من فضول الكلام والنظر وغيرها، وأكثَر من قراءة القرآن، وبكَّر للمساجد؛ لأن صيامه يَمنعه ممَّا كان يفعل وهو غير صائم، فلا يدخل عليه رمضان إلاَّ وقد روَّض نفسه على الكفِّ عن الحرام والفضول، وأَلِف الصيام والقرآن وكثرة الذِّكر والصلاة. وإذا كان التنافس بين الأسواق محمومًا، وكلُّ سوق في مقْتَبل رمضان يرغِّب الزبائن في الشِّراء منه دون غيره بإصدار قوائم بالبضائع المخفَّضة، والناس يَختارون ما كان أقلَّ سعْرًا؛ ليوفِّروا شيئًا من المال، وهم يُولُون ذلك عناية فائقة، فلأَنْ يَعتني الناسُ بما هو أهم من ذلك أولى؛ وذلك بمطالعة ما ورد في رمضان من الأجُور العظام؛ لئلاَّ يفرِّطوا في شيء منها. ومن التهيئة الجسَدية لاستثمار رمضان ترويضُ النَّفْس قبل دخول رمضان على التَّبْكير إلى المسجد، والمُكْث فيه طويلاً قبل الصلاة وبعدها، والمحافظة على نوافل العبادات، والإكثار من الذِّكر وقراءة القرآن، وكثرة الصوم في شعبان؛ حتَّى لا يدخل رمضان إلاَّ وقد روَّض نفسه على الجِدِّ في الطاعات، والمنافسة في اكتساب الحسنات. ومن التهيئة البدَنية التخفُّفُ من الصوارف والمشاغل، وسرعة إنجازها قبل دخول الشهر، وتأجيل ما لا يمكن إنجازه، وتوفير ما يحتاج إليه البيت مدة الشهر وكذلك العيد قبل دخول رمضان؛ لِيَبتعد عن الأسواق ولغَطِها ومنكراتِها طوال رمضان، ولِيَسلَم مما يخرق صيامه؛ وليتفرَّغ لعبادة الله تعالى في رمضان كلِّه، فلا يضيع منه شيئًا أبدًا.
مشاركة :