يظل الإنسان كما هو دائماً وأبداً جوهر الوجود ومفتاح التاريخ وهو الذي دارت حوله قضايا الدين والأخلاق والفلسفة فهو في الأساس حالة متجردة من كل شيء، باعتبار أنه مادة خام في هذه الحياة، حيث يتشابك هذا الإنسان مع الإنسان في كل مكان وكل زمان عن طريق توحد الرغبات والنـزوات، ويبقى التميز في ما بينهم يتمحور حول ارتفاع أو انخفاض هذه الأشياء في حياته، فهذا الإنسان الأول أو الإنسان كمادة خام والذي يتجاوز حدود الجغرافيا وديناميكية التاريخ يتشكل كنفس إنسانية خالدة تعبر العصور، ويتجاوز ثقافات الشعوب وتموجات حركة المجتمع. وانطلاقاً من رأي سارتر أنه بين الإنسان والإنسان الآخر هوة لا يمكن تجاوزها، نسعى في هذا المضمار إلى إمكانية الوصول إلى هذه الماهيات الموغلة في الاستغراق في حياة هذا الإنسان، وإن جنحنا في بعض الأحيان أو في أحيان كثيرة إلى الوقوف عند عدد من هذه الحدود السيمائية التي تشكل هوية هذا الفرد أو ذاك من أجل رسم خطة العمل في هذا الشأن، مع العلم أن هدفنا من طرق هذا المجال، ليس الحديث عن شخوص معينين يتناولهم هذا المبحث، بقدر ما نسعى إلى تلمس أزمة الإنسان مع نفسه كذات خالقة أو كموضوع متداول أو كحالة محايدة لا ترتبط فيه بشكل مباشر ما أمكننا ذلك.في نص «حنظلة» للشاعر فهد دوحان والذي كتبه بعد اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في لندن عام 1987، حيث تحدث الشاعر عن القتيل من خلال تجاوزه كذات شاخصة والحديث عنه كذات ممتدة في المكان:أدري عيونك صارت أوسع من صحارىكانت دموعك مثل النعام!ففي هذا الكلام ازدواجية قاسية الإحساس من خلال الصحارى بما فيها من كبت الهموم ودفن للدموع مثل النعام الذي يدس رأسه في التراب لكي لا يرى أيّ شيء يجري حوله، وفي هذه الصورة الشعرية رؤيتان، الرؤية الأولى أنه الكاتم للهموم الدافن للآلام والرؤية الثانية أنه الإنسان الذي يرى ويسمع ويقرأ ولا يملك إلا تسجيل المواقف التي لا تعترف بالتراجع.لم تكن هذه القصيدة نصّاً رثائيّاً بقدر ما هي استنـزاف للوعي وتحفيز لمخزون الذاكرة والعاطفة في النفوس لمقاومة الظلم والقتل والتشريد والإلغاء وإسكات المخالفين بقوة السلطات الرسمية أو شبه الرسمية ووحشية الرصاص. إنه في هذه البكائية العربية الإنسانية يقوم الشاعر هنا بإخراج ناجي العلي الشخص والرسام الكاريكاتيري ليخاطب من خلاله الإنسان والضمير الموجود في كل إنسان:أبكتب في القلوب الخاليةطعم العذاب من الغيابأبصرخ بالحياة الباليةما كان «ناجي» صاحب الوجهين:- لو مرة.ولا رمى السكين في وجه الحمامكانت سنينه من عتبوألوانه.. خيول.. وظلامأو باختصاركان اختصار الكلأو كل الكلاميتوجه الشاعر هنا إلى ذات الإنسان الأولية وهي الذات الأساس, والتي هي أشبه بالمادة الخام المجبولة على الصفاء ليخاطبها من خلال عكس موقفه من فقدان ناجي العلي، وهنا يحاول الشاعر رسم صورة الإنسان المثال لا صورة الإنسان المتأمل الذي لا يريد الارتباط بالواقع، والفرق كبير بين الإنسان الراغب في تحقيق صورة المثال وهو الإنسان المثالي وبين صورة الإنسان الجانح إلى الخيال، لأن الأول بعيد عن الأمور الواقعية طامع بالوصول إلى درجة الوهم التأملي الغارق في الغيبوبة الذهنية في بعض الأحيان، بينما الثاني، هو الإنسان الواعي المدرك للأمور من حوله، والساعي إلى تحقيق أو بلوغ القضايا الكلية في هذه الحياة كالخير والحق والعدل والجمال، وهذا ما أراد الشاعر اختصاره أو قوله في هذا الشأن «كان اختصار الكل... أو كل الكلام» وهذه الحالة تتكرر معه لكن في هاجس الغياب، غياب الحياة لا غياب الموت كما هو الوضع مع ناجي العلي، إذ إنه يوجه النداءات المتكررة لصاحبه المهاجر، وهو صديقه سمير الشمري الذي لم يغيبه الموت بل لفته ستائر النسيان وضاع في دوامة الغياب والهجرة:بعيد أنت لكن..تركت التعري بوسط الركام / الزحاموفراغ الأماكن..وصبح من الحزن داكن..واخترت منفى..من الشمس يملأ ضلوعك مساكن!فهجرة سمير الشمري واغترابه كشفت في نظر الشاعر مدى الزيف الاجتماعي الكامن في زحام الناس وركام المجتمع، وكشف كم هي فارغة هذه الأماكن التي لا تسأل عمن كانوا يملؤونها حياة.إن هذا الاغتراب الذي حصل للإنسان زرع الاغتراب في روح الشاعر وجعله يرى كل شيء في غير حالته الأولى، حيث أصبح كل شيء متعرياً، فلا الأماكن هي الأماكن ذاتها ولا الصباح غدا ذلك الصباح المشرق الجميل، لقد تغير كل شيء، حيث يشعر الشاعر بحالة من التجرد والرغبة في الانعزال عن الهموم والانغماس في الغياب الذي تناثرت بينه أشلاء محبيه:وظلت ذابلة هذي الغصونوناشفة هذي العيون.برغم تاريخ المواويل النديةكنت أنا:هذا الحطام اللي تباكى،،كنت أنا:هذا الحطام اللي عرفتك،،كنت أنا:بحار..وأجمع ما تناثر من حطامقلنا في مقدمة هذا المبحث إن الإنسان مادة خام أولية تتشكل حولها الحياة, ويتجاوز كل شيء ليتحول إلى نفس خالدة تعبر كل العصور، وفي هذا المقطع يكاد يلتقي الشاعر مع هذه النظرة ولا أقول يندمج بها، حيث يحفها من قريب ويكاد يتماس معها في هذه الرؤية ليندمج الإنسان بالإنسان حيث إن قائل هذا الكلام من أبناء القبائل التي استوطنت السهول الممتدة والصحارى الجرداء القاحلة غير أنه ينصهر بالإنسان ليتحول إلى بحار يجمع ما تناثر له من حطام، وهو هنا ينتقل إلى ذات خالقه إلى موضوع فعال ومؤثر تدور حوله الرؤية الإنسانية المتجردة من كل موقف فئوي.
مشاركة :