في المقطوعة السابقة المنشورة بالأسبوع الماضي يحاول الشاعر وضع رسم بياني للإنسان في تصوره، أو في هذا العصر في أضعف الإيمان، هذا الإنسان المثقل بالذنوب والخطايا، المثقل بالهموم والأفكار، والرغبة المتأرجحة ما بين الإيمان المطلق والعبث الديني اللامحدود، إنه يحاول وضع صورة لهذا الإنسان الذي يتجاذبه شعور من عدم الاستقرار، ما بين ماض غير مرئي يغلب عليه الزيف والخداع، ويبن مستقبل غير واضح الهوية، ومعدوم الرؤية، وهذا ما كان مع الشاعر في نصوصه الأخرى، وهو مؤشر بأن هذه الحالة التي يمر بها ليست نابعة من انفعال شعوري آني بقدر ما هي رؤية ذاتية مدروسة ترتبطة بعلاقته بالناس والمجتمع، وفي بعض الأحيان بالسلطة التي تقود الناس وتوجه ثقافة المجتمع: هذي صورة من جروحي.. وهذي صورة من المؤهل مرمطة فـ كل الدواير مشورة والحزن فاير وقفتي بين المكاتب والشعارات الأنيقة.. كانت الوقفة مريرة.. وأنا بأمد بملفي.. يدي أقصر من طموحي.. حزني أكبر من جروحي.. هذا العذاب الذي لا يعرف التوقف للإنسان الباحث عن وظيفة تؤمن له مستقبله في العيش الكريم ومن ثم الزواج وإقامة أسرة أو أن يكون عضوًا ناجحًا في المجتمع، حاول الشاعر اختصار هذه البدايات التي وصفها بأنها «مريرة» في هذه المقطوعة، وهي مقطوعة صارخة بالمرارة والتعب والشعور بالأسى وانعدام الحيلة الناتجة عن «المرمطة والمشورة» كما يقول الشاعر في البحث عن عمل يؤمن له قوت يومه ورزقه في الحياة، لهذا يصور لنا الشاعر مأساة الإنسان الذي تتنازعه رغبة الطموح والإحساس بثقل الجروح، وهو الإنسان الحاصل على المؤهل الجامعي، والذي لا يشفع له إلا بتقديم «الملف» والوقوف المذل أمام مكاتب التوظيف التي تسخر بالناس، التي تسخر بهم وهي تعلق الشعارات الأنيقة المهذبة وهي تحمل عناوين زائفة لا تعبر عن مرارة الواقع، هذا الواقع الذي دفع الشاعر إلى استخدام اللغة المباشرة في نقد الأوضاع، لأنه لا يريد أن يحلم بواقع، بل يريد العمل على تصحيح الواقع المرير في تحريض غير معلن على الرفض والتصريح بهذا الرفض والاحتجاج، لأن أمثال هذه الأشياء الزائفة هي التي حرمت الإنسان من تحقيق أبسط ضروريات الحياة. من يكمل نص ديني ؟! من يسدد نصف ديني ؟! من يعيد النبض في قلبي المهشم؟! من يسمعني رنين «الموت.. ريلا»؟! من يساعدني بأقساط الكرولا؟! كنت أتمتم.. دنيا أسخف من سخيفة هذه الضروريات الملحة واللازمة لإنسان هذا العصر يعاني من عدم تحقيقها الشاعر، وهو في هذا النقل الأمين للواقع، إنما يرسم صورة بشعة لجشع الإنسان وطمعه، وكذلك يعكس صورة مريرة لظروف العديد من الناس، هذه الظروف الحياتية القاهرة التي تكبل الإنسان عن تحقيق أبسط الماديات، لهذا يعمل الشاعر خالد قماش على رسم صورة شعرية مكثفة لهذا الهم الإنساني الممتد، وذلك من أجل تسليط الضوء على هذا الإنسان الباحث عن لقمة العيش. هذا الوضع المتصادم مع الواقع، في دوامة البحث عن فرصة عمل يستطيع منها الإنسان تأمين مستقبله، لا تكاد تكون ظاهرة عند فهد عافت، لأنه لا يبحث عما يفتقده الإنسان، بل الحالة مع فهد عافت تكمن في أنه يبحث عن الإنسان المفقود من الحياة، أي يبحث عن الإنسان الضائع في الإنسان: يا موجة السكر تعالي نوّخي في خاصرة جسمي ركابك أمطريني في هلاهيل البنات في يدك حفنة غيوم، وفي يدي: رمل البلاد اللي تسميني بغير اسمي هلا بك يا مطر طق طق إن طق هي هذي آخر طيحة أو طيحة.. وأقوم؟! هي باقي فيها أمل أو وصلت الحلقوم ؟! يا مطر الغياب يا مطر الغياب تحاول هذه المقطوعة اختراق حاجز الصمت لتتحدث عن أزمة الهوية وشعور الإنسان بفقدان توافق الحالة مع الجو المحيط من حوله، لهذا يحاول الشاعر إيجاد هذه الروح المفقودة على الأوراق في أصوات البنات اللاتي يزغردن في الأفراح«أمطريني يا هلاهيل البنات»من أجل أن يشعر بنشوة العودة إلى الأصل، وهو أصل التكوين الأول الحاصل من خلال عملية«الهلاهيل»التي تدل على الفرح والتقاء الأهل والأقارب في المناسبات العزيزة، إن هذا النص يحرض على الاستغراق في التفكير والسير بالخيال أبعد من المأمول، وذلك لأنه فاقد لهذا التواصل في حياة الناس، وفي البلاد التي أصبحت تسميه بغير اسمه، أي انها خلعت عنه رداء الانتماء لها، وسلبت منه الاستمتاع بهذا الشعور المصاحب للانتماء. هذا الوضع الشائك والمعقد جعله، يتصور أو يرى بأدق تفصيل، جعله يرى انقلاب العلاقة بينه وبين المطر، فالمطر الذي كان رمزًا للخير ورمزا للعطاء والخصب والنماء، أصبح رمزا للرفض والإلغاء والتهجير«إن.. طق»وهي كلمة تعمد الشاعر تقطيعها، وهي كلمة«انطق» أي اخرس، وهي مفردة شعبية تقال باحتقار وازدراء واشعار لمن تقال له بالدونية، تعمد الشاعر تقطيعها لأنها قطعت العلاقة بينه وبين أحبابه، وبينه وبين البلاد التي صارت تطلق عليه اسمًا لا يعرفه ولا يشعر بالانتماء له. وهذا ما جعله يشعر بوجود حالة من التشظي تتسلل إلى أعماق هذا الإنسان الذي خلقت منه الحواجز شيئًا أشبه ما يكون بالإنسان. تبرينا من الأشياء تبرت منا الأشياء تغيرنا كثيرا وكل قلب خان به نبضه هو الإنسان من أقصى حدود الدمع إلى أقصى حدود الدمع لعبة في يد اللحظة حالة التشظي تسللت إليه من خلال عدم ارتباطه بالأشياء من حوله بكل أسمائها وأنواعها، من بشر وطبيعة، لهذا صار يشعر بأنه ليس ذلك الإنسان السابق الذي كان يحب ويعشق، ويمارس كل رغباته ولا يعاني من أي رقيب يعد عليه خطواته ويقيس عدد دقات قلبه.
مشاركة :