لقد تحول هذا الإنسان إلى إنسان آخر لا يشعر بالانتماء لمشاعره، ولا توجد بينه وبين ذاته أي علاقة، لأنه مسكون بالأحزان والهموم والمواجع من قمة رأسه حتى أخمص أقدامه، ولأنه تحول إلى «لعبة في يد اللحظة» يشعر بأنه صار وحيداً تتقاذفه الأقدار كيفما تشاء: ساري.. في ليل سرمدي.. لا.. ملامح صاحب يخطي وأسامح..؛ لا.. صديق وأغفر الزلة.. ولا.. عتب على جيران..؛ طفت الثلوج..؛ وذابت النيران..؛ هذا التشظي على مستوى الذات، ولّد لدى الشاعر إحساساً بحالة من التوحد أو الوحدة، لهذا لا نرى في هذه المقطوعة أنه يسافر، بل نرى أنه إنسان راحل، وهناك فرق بين السفر والرحيل، السفر مشروع اختياري بينما الرحيل هجرة اضطرارية، وحتى لا أوغل بالتفريق بين هاتين التسميتين، نقول إن هذا الإحساس بالوحدة، هو ما جعل الشاعر يسير في الليل «ساري» وذلك أنه لا يحس بوجود أحد حوله إلا ذاته التي رافقته في كل رحلاته، ولعل «الشمس ترحل والظلام أهون من الظلم» الذي قاله في أحد نصوصه ما يفسر حدوث هذه الحالة المتواصلة من التأزم مع النفس، لأن الظلم يجثم على النفوس ويحكم على الإنسان بالشتات والقهر، الشعور بالتلاشي داخل المحيط الملتف من حوله، ما يدفعه مثل هذا الشعور إلى الإحساس بالغربة، وهذا في الغالب هو ديدن فهد عافت يحس بالغربة في معظم نصوصه وهي غربة أقرب إلى التفكير الفلسفي التأملي الجانح لبلوغ الغايات العليا من الحياة. ينهمر الشاعر طلال حمزة حيث يبدو الإنسان لديه رجلاً تصادميّاً مع الحياة، لهذا لا نراه يميل إلى فلسفة الأمور، بل يتعامل مع الحياة بشراسة وانفجار وكأنه في أزمة لا تعرف التوقف: تعبت أقلك... يا أخي حس ليه متى وأنت كذا عايش لنفسك وبس؟ الإنسان لديه إنسان للجميع وليس إنساناً لذاته، ولا تتحدد قيمة الإنسان عنده إلا بقدر ما ينفع الناس، هذا الفهم الذي اتضح من خلال هذا الكلام السابق للشاعر، يجعلنا نتصور أن الإنسان هو ليس ذلك الحالم المتأمل المشغول بأموره الذاتية وقضاياه الفكرية، بل هو الإنسان الباحث عن رفاهية الجميع، الإنسان الراغب بأن يكون عضوًا نافعاً في المنظومة العامة للمجتمع، وليس الذي يعيش لذاته ولا يفكر بمن سواه من الناس، وكأنه هنا يخاطب ذاته من أجل أن يكون عنصراً فاعلاً ومؤثراً في الحياة، وإنساناً غير منكفئ على ذاته، وهذا الكلام مؤشر على إصراره على القيام بكل واجبات الإنسان الصالح النافع لذاته وللجميع، لهذا نراه في مكان آخر يناشد حظه من أجل القيام بهذه المهمة، لكنه عرضها بشكل مثير للحيرة والتفكير رغم ما به من تهكم: قلت أنا لحظي دخيلك واللي يرحم أم أمك قوم مرة من عرفتك وانت نايم وش بعد هذي الهزايم؟ ابتسم حظي وقال: والله اني جيتك البارح بنصر ما لقيتك طلعوا أهلك... قالوا نايم شفت من فينا اللي نايم؟ هذا الاستجداء للحظ أو هذه المناشدة بالالتفات إليه تعكس من الوهلة الأولى نظرة سوداوية تجاه الذات، حيث إنه يستسلم لهاجس الخوف من المجهول وعدم الثقة بالمستقبل، فهو يناشده ويستحلفه بأعز ما لديه «واللي يرحم أم أمك» بالنهوض من سباته والالتفات إليه ولو مرة واحدة، لكنه بعد ذلك يسلط الضوء على الإنسان ذاته باعتبار أن المعضلة تكمن فيه لا بالظروف أو الأقدار، المشكلة نابعة من داخله، لأنه هو الذي يضيع الفرص «والله إني جيتك البارح بنصر، وما لقيتك» أي إن تقاعس الإنسان هو أهم معضلة يواجهها في هذه الحياة. من خلال هذين المقطعين للشاعر طلال حمزة، نكاد نلمس أن الإنسان الناجح يعود نجاحه له، والإنسان الفاشل إنما فشله نابع منه، والمجتمع كذلك ينسحب عليه ما ينسحب على هذا الفرد الذي يعتبر اللبنة الأساسية في بناء أي مجتمع، وعليه ندرك أن الإنسان في تصور الشاعر يدور حول فلك المصلحة المادية، وهذا الكلام يدل على مدى سيطرة عجلة الاقتصاد والمادة على ضروريات الحياة عند إنسان هذا العصر. تحاول الشاعرة حصة هلال «ريمية» نقل الصورة بعيدًا عن عالم الرجال، ولا تسعى لعكس صورة الحياة إلا من خلال الذات الأنثوية، إذ يظل هاجس الأنثى مسيطراً عليها، حتى في التقاطاتها الدقيقة لتفاصيل الحياة، ففي هذا المقطع تبدو رغبة الانصياع لهاجس الحب المسيطر على النفوس البشرية بشكل عام، وهي إنما تريد نقل إحساسها بكونها إنساناً في هذا المجتمع، إنما تريد تحقيق هذه المعادلة من خلال هذا الهاجس، إذ لا يهمها من الحياة إلا بقدر ما تريد أن تبلغه من الحب، لأن الحب من خلال هذا المقطع يظل أسمى غايات التطلع الإنساني لديها: امسك ايدي حنا في أول يناير يفترض فـ أول يناير يسقط المنقود عنا برد هالدنيا يا شاعر برد برا وبرد جوا برد لو نلبس بعضنا ما نلام للضرورة أحكامها مثل ما عند الذرايع سد في وجه أي شاعر وللضرورة وش بلاها يعني ما فيها فرج للعرب والمسلمين لعل هذه النظرة تعتبر نظرة عامة، حيث تعتبر المرأة أن وجودها تتحدد أهميته من خلال وجود الرجل من حولها، وهذا الموقف حقيقة غير واضح في شعر ريمية، وهذا الموقف يشعر الأنثى بالأمان من البرد والوحدة، ويشعرها بالدفء العاطفي، لأن الرجل قادر على تحقيق هذا التوازن لها «امسك ايدي» وهو ما دفعها للتصريح بهذه الرغبة ضاربة بكل الأعراف عرض الحائط «يسقط المنقود عنا» فبرد الشتاء في يناير وبرد المشاعر بحاجة إلى وجود رجل يمسك لها يدها من أجل أن يحميها من هذا الجو المعادل للدنيا والناس والمجتمع، وهذا كفيل بأن يحقق لها الشعور بدفء المشاعر. فرغبتها بالحب وحرصها على تحقيقه من خلال قربها ممن يشاركها الحياة، هو الذي دفعها للاحتجاج على الظروف والعادات، وفي هذا الجنوح الأنثوي ميل يظهر عند الشاعرة، وكما يبدو من هذا المقطع بأن المرأة لا تريد إلا الحب ورجلاً يقاسمها رغيف الحياة، ولا تكون مكترثة بعد ذلك بمن حولها ما دامت منطوية تحت حمى هذا المحبوب، باعتبار أنه العالم بالنسبة لها.
مشاركة :