شهد القرن التاسع عشر مجموعة من الصراعات، الفكرية أحيانا والدامية أحيانا أخرى. ولكنها جميعا تفجرت من المشكلات الاقتصادية والمعيشية التي صاحبت الثورة الصناعية. أخذت طريقها في شتى الميادين. بيد أن ميدانا واحدا صغيرا منها لفت نظري. وكان الصراع الفكري بين أب وابن ينتمي كلاهما إلى الكنيسة. أما الابن، توماس مالتوس، فقد كان أستاذا للاقتصاد في مدارس شركة الهند الشرقية. شغل نفسه بمشكلة ازدياد السكان التي شاعت عندئذ. أجرى حساباته بما حمله إلى الافتراض بأن كل ألف مواطن من السكان سيصبحون أربعة آلاف مواطن بعد جيلين فقط. وسيؤدي ذلك إلى مجاعات وثورات دامية.لم يوافق الوالد، دانيال مالتوس على هذه القراءة. كان قد تأثر بما ذهب إليه الحالمون المثاليون ممن أشرت إليهم سابقا. رأى أن هذه مشكلات يمكن حلها بالتعاون بين بني الإنسان وبالإصلاحات الاجتماعية، ومنها السيطرة على النسل بالإجهاض واستعمال العازل. ولاحظ الوالد، السيد دانيال، وجماعته أن من الممكن حل مشكلة الغذاء باستصلاح مزيد من الأراضي الزراعية وتحسين أساليب الزراعة والبذور المستعملة في الحرث، بيد أن الابن، توماس رفض ذلك واعتبر السيطرة على النسل بهذه الوسائل مناقضا لتعاليم الدين ولا يأتي بالحل المطلوب لمشكلة كثافة السكان.قضى الأب والابن أياما وليالي طويلة يتجادلان في الموضوع. وتمخض عن هذا الجدال كتاب أصدره الابن بعنوان «مقالة في موضوع كثرة السكان». قرأه كارل ماركس فيما بعد ووصفه بأنه أكبر شتيمة لبني الإنسان. وكذا فعل كثيرون من اليساريين والليبراليين. أجمعوا على أن الإنسان قادر على حل هذه المشكلة بالسيطرة على النسل والزواج متأخرا، وطبعا بالإصلاح الاجتماعي وتحسين أحوال العمال. وبشرت الأحزاب اليسارية بما فيها الشيوعيون والفوضويون بالحل الثوري الذي تمخض عن الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر وعصر الثورات في أواسط القرن التاسع عشر. وبقي اليساريون إلى يومنا هذا يؤمنون بالحل الاجتماعي لمشكلة السكان. وكما نلاحظ الآن فإن زيادة السكان في أوروبا لم تصبح مشكلة تشغل البال، بل بالعكس أخذت بعض الدول الأوروبية، كألمانيا واسكندنافيا وبريطانيا والنمسا تعاني من قلة السكان حيث أخذت تستورد عمالا من الخارج.كان من هذه الحلول أيضا، اقتراح البعض بنقل أبناء الزيادة السكانية إلى المستعمرات. وبالفعل تألفت عدة شركات لتشجيع السكان على الانتقال والاستيطان في الخارج. ودأبت الحكومة البريطانية على نقل ما يسمى الزيادة السكانية إلى المستعمرات. شمل ذلك العاهرات والمجرمين وغير المرغوب فيهم بترحيلهم إلى أستراليا.ومما يعنينا من الموضوع أن الحركة الصهيونية استغلت هذا الأمر ودعت إلى تهجير اليهود إلى فلسطين. وتألفت شركة لنقلهم وتشجيعهم على الهجرة إليها، وشجع هذا الإنجليز على التجاوب مع أماني هذه الحركة، وأخيرا إصدار وعد بلفور.
مشاركة :