الملاحظ لي من خلال متابعتي كثيراً من النقاشات التي يكون طرفاً فيها بعض غير المتابعين للصراع العلمي والديني في تفسير التنوع البيولوجي- أن كثيرين يخلطون بين الاتجاهات المختلفة التي تُفسِّر النشأة الأولى للأنواع الحية. لا أتحدث هنا عن تبني أحدهم اتجاهاً محدداً ضد الآخر؛ بل أعني أنهم قد لا يعرفون حقيقة كل اتجاه على حدة، كما أنهم بالفعل يخلطون بين الاتجاهات المختلفة بعضها وبعض، ويخلطون بين ما هو علمي وما هو ديني من بينها. إلى وقت قريب، كان من يقرأ في تفسير نشأة الأنواع الحية يجد نظريتين، كل منهما لها بعض الدعم من المجتمع العلمي، مع تفاوت مقداره، تضع كل منهما فرضيات لتفسير الخلق الأول، وبقدر اتساق فرضيات كل نظرية مع نفسها، بقدر تعارضها مع فرضيات النظرية الأخرى. وأعني بهاتين النظريتين: نظرية التطور، ونظرية التصميم الذكي. ولم تتنازع هاتان النظريتان فقط إعطاء تفسير متسق لنشوء الأنواع الحية؛ بل تنازعتا ادعاء العلمية ونزع ثوب العلمية عن النظرية الأخرى. وهذا في حد ذاته مبحث مستقل يستحق الكتابة فيه تفصيلاً؛ لنرى أيهما قادر على تحقيق أهداف العلم وأهمها التفسير، وأيهما تضع فرضيات قابلة للتخطئة، ولم يثبت خطؤها. لكن على كل حال، فكلتا النظريتين: التطور والتصميم، بناؤها يشبه بنْية النظريات العلمية، مهما اتفقنا أو اختلفنا بعد ذلك عليهما عند التدقيق في أمريهما. ولنبدأ أولاً بالتعرف على هاتين النظريتين، قبل أن نناقش اتجاهات أخرى لتفسير التنوع البيولوجي، بعضها لها جذور أقدم من النظرية ذاتها؛ وأعني: الخَلْقَوِيَّة الإسلامية والخلقوية المسيحية، وبعضها أحدث ومنشق عن التطور تحديداً مثل ما يُسمى بالتطور الموجه وما أصبح يُعرف بالاتجاه الثالث، لكن كل تلك الاتجاهات الأخرى لا يمكن أن تعد نظرية علمية لأسباب مختلفة؛ فالنظرية: هي بنيان من المفاهيم المترابطة والتعريفات التي تقدم نظرة نظامية إلى الظاهرة موضع الدراسة لتحديد العلاقات بين المتغيرات، بهدف تفسير الظاهرة والتنبؤ بها وضبطها. كما يجب أن تكون الاستدلالات على أي نظرية منبثقة من فروع العلوم المختلفة لتعتبر نظرية علمية. التطور: نشأت الداروينية في منتصف القرن التاسع عشر على يد تشارلز داروين في كتابه "أصل الأنواع"، واعتمدت فكرة نشوء الأنواع الحية من أصل مشترك، وتطور أشكال الحياة المعقدة من أشكال أبسط، وإن كانت تلك الأفكار أقدم من داروين؛ وكان الانتخاب الطبيعي هو الآلية التي اعتمد عليها داروين لتفسير انتقال الصفات المكتسبة للأنواع الجديدة، وبعد اكتشاف مبادئ الوراثة المَندلية، والتأكد من استحالة توريث الصفات المكتسبة، كان على التطوريين إيجاد آلية تفسر كيفية تكوّن المعلومات الجينية الجديدة التي يمكن توريثها، ومن ثم تنشأ من خلالها الأنواع الجديدة المدّعاة وفقاً لنظريتهم؛ فكانت الطفرة. وقد طرأت على الداروينية الكلاسيكية تغيرات كثيرة لا تختص بإدخال الطفرة وحدها، ويمكن القول إن الحديث عن الداروينية منذ عقود يعني النظرية التركيبية الحديثة Modern Synthesis theory أو النظرية الداروينية الحديثة Neo-Darwinism theory، والتي تستند إلى علم وراثة العشائر Population Genetics مع إبقاء أسس الداروينية الكلاسيكية، وتقدم تعريفاً للتطور بأنه: مقدار التغير في تكرار المورث "تردد الجينات" في العشيرة، والعشيرة هي أفراد من أحد الأنواع الحية الذين يعيشون ويتزاوجون معاً في بيئة واحدة. وتعتمد الداروينية الحديثة على تفسير حدوث التطور بواسطة الطفرة والانتخاب الطبيعي معاً، فبينما تولّد الطفرة المعلومات الجينية للصفات الجديدة المتطلبة للأنواع، يقوم الانتخاب الطبيعي بالانتقاء من بين المعلومات الجينية المتولدة لتمرير الصفات الجديدة الأصلح للأنواع الناشئة. من ثم، يكون الانتخاب الطبيعي هو المسؤول عن توجيه التطور. وسواء قصدنا عند الحديث عن التطور: النظرية التطورية الكلاسيكية أو النظرية التركيبية الحديثة أو حتى نظرية التطور عن طريق قفزات واسعة وليس تدرجاً تراكمياً، فالقيمة التفسيرية لنظرية التطور مشكوك فيها بشكل كبير. فالطفرة هي البديل الذي أوجده التطوريون لآلية الانتخاب الطبيعي مدّعين قدرتها عبر زمانية طويلة على توليد ملايير المعلومات الجينية التي تولدت عنها ملايير الأنواع الحية والمنقرضة، رغم عدم نفعيتها وعدم ثبوت قدرتها على توليد معلومات جينية. كما أن التطور ليس غائياً، ومن ثم لا يمكن التنبؤ من نظرية التطور بشيء. يُعرَّف التنبؤ على أنه استخدام المعلومات المتجمعة في مواقف أخرى غير تلك التي تنشأ عنها أساساً، أي استخدام معرفة علمية سابقة لأجل توقع حدوث شيء في زمن ما أو في مكان ما. ومن ثم، فالتنبؤ يتعلق بالاستفادة من المعلومات المتجمعة من القوانين والمبادئ والنظريات في تصور ما يمكن أن يحدث في مواقف مستقبلية متعلقة. والتطور، نظرية تفترض أنها تقدم تفسيراً لكيفية نشوء الأنواع الحية، وإضافة إلى أنها تفتقد تقديم آلية مناسبة لنشوء المعلومات الوراثية، فهي علاوة على ذلك ليست لها أدنى قيمة تنبؤية، فلا يستطيع أحد في ظل نظرية التطور أن يتنبأ بنشوء نوع جديد من نوع آخر؛ بل لا يمكن حتى أن يتنبأ تنبؤاً له شواهد حقيقية تدعمه بنشوء عضو جديد أو زوال عضو مما يدّعيه التطوريون أثرياً بلا وظيفة. وقطعاً، نظرية لا تفسر ولا تملك قدرة تنبؤية لا يمكن أن تضبط شيئاً. إن تحديد أسباب أية ظاهرة وإمكانية توقع حدوث أشياء متعلقة بالظاهرة قد يؤديان إلى التحكم في الظاهرة، وكلما ازدادت قدرة الإنسان على تفسير الظاهرة والتنبؤ بها أمكنه التحكم فيها. وهذا ما لا تفعله نظرية التطور. من ثم، يمكن القول إن نظرية التطور لا تُحقق أياً من أهداف العلم الثلاثة: التفسير والتنبؤ والضبط! كما أن التطور نظرية غير قابلة للدحض، ووفقاً لكارل بوبر الذي يعده كثير من الباحثين أكبر فلاسفة العلم في القرن العشرين، فإن معيار العلمية لأي نظرية هو قابليتها للدحض (للتخطئة). وقف كارل بوبر موقفاً معارضاً لتحديد الاستقراء كأساس للمنهجية العلمية، ومن ثم رفض الملاحظة كمنطلق للتفكير العلمي، وقال إن المنهج العلمي في حقيقته يقوم على الاكتشاف وينطلق من وضع الفرضيات. من ثم، فإن المنهج العلمي يقوم على فرض العديد من الفروض ومحاولة تخطئتها للوصول إلى الفرضية التي تقاوم التخطئة في ضوء المعلومات المتجمعة، فيتبنّاها الباحث، لكن تلك الفرضية تبقى محل دراسة وتستمر محاولة تخطئتها ونقضها لأجل بلوغ فرضية أفضل تسهم في تفسير الظاهرة موضع الدراسة. فالنظرية لا تكون علمية إلا لأنها قابلة للتخطئة، لكن لم تتم تخطئتها بعد، وهذا لا ينطبق على التطور؛ إذ تمت صياغة فرضياتها بحيث تحتمل الشيء ونقيضه؛ ما ينفي أي سبيل لتخطئتها. ولأجل هذه الطعون العلمية المتزايدة في نظرية التطور، فإن الانشقاق عنها قد تزايد في العقدين الأخيرين. http://www.discovery.org/scripts/viewDB/filesDB-download.php?command=download&id=660 في الجزء الثاني من المقال، نتعرف على نظرية التصميم الذكي، وهي التحدي العلمي الحقيقي لنظرية التطور، ثم في الجزء الثالث نختم جولتنا بالتعرف على نظرية الخَلْقَوية، وتيار التطور الموجه، وأخيراً الاتجاه الثالث في التطور. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :