الناشطون في الركن المظلم والباحثون في مستنقع الألفاظ والعبارات وكيفية تطويعها يؤرقهم مثل هذا النوع من الخطابات الداعية إلى التهدئة والتكاتف وتغليب لغة الحوار.العرب حبيب المباركي [نُشر في 2017/05/13، العدد: 10631، ص(4)] لقارئ متأنّ في الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، ولباحث في ثناياه وواقف عند أبرز محدداته تتكشّف ملامح إستراتيجية قوامها العمل من أجل تونس أولا وأخيرا. تونس أولا، أو الدولة، أولا يعني الكثير في نظر الملامح المرسومة والوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي تمر به البلاد. الخطاب الذي جاء حازما هذه المرة من رئيس الدولة، مستفيضا، منبّها للمخاطر المحدقة بالبلاد وأولها الإرهاب ولم يستثن أحدا. توجه السبسي مباشرة إلى التشخيص وطرح الحلول الممكنة للنهوض. قدّم المقترحات والرؤى. فسّر المطلوب من الفاعلين السياسيين وأطياف المجتمع المدني. وعزّز السبسي كل ذلك بمقترح تولي المؤسسة العسكرية حماية المقرات والمنشآت الحيوية في الدولة. لكنه حذّر من الوضع الصعب الذي تمر به تونس وما يتهدّد الديمقراطية ومراحل نضجها وبلوغها. يقول الباجي قايد السبسي “اتخذت القرار بعد استشارة مجلس الأمن القومي”. شعار “تونس أولا” يمكن البناء عليه لجهة الوضع الراهن، الحساس والدقيق، الذي تشهده البلاد. لا خيار أمام التونسيين سوى العمل وفق منظومة التوافق التي أضحت ضرورة أكثر من أي وقت مضى. منظومة التوافق هي الأخرى يمكن البناء عليها وتطويرها، ولم لا فحص الثغرات الكامنة فيها ومحاولة تجاوزها لتصبح تشاركية أكثر بين كل التونسيين. كل ذلك لا يكون إلا بالعمل والتضحية وتوحد جميع التونسيين. الوحدة في هذه المرحلة مطلوبة، ومطلوب أيضا التعمق في تأصيلها وترسيخها بين جميع مكونات المشهد السياسي والفئات الاجتماعية المكونة له. في هذا الإطار يقر الرئيس التونسي “يجب أن نكون يدا واحدة. تونس أمام رهانات كبيرة. والدولة مطالبة بحماية موارد الشعب”. مسلكية الخطاب تتجه إلى ثنايا الأشياء دون تسميتها. معلومة الأسباب وبعضها خفي على عيون غير المدركين لما يتهدّد البلاد من مخاطر وأزمات وأولاها السيولة النقدية لدعم بعض المشاريع المعطلة، وتراجع نسب الفائدة من بعض المشاريع، يضاف إلى كل ذلك تدهور العملة التونسية وتراجعها إلى أدنى مستوى وغيرها من العوامل التي أنهكت الاقتصاد التونسي وأوصلته إلى حد أصبح لا يطاق معه قبول تواصل التعنّت الشعبي في غلق الطرقات والوقوف أمام استمرار الإنتاج في بعض القطاعات الحيوية. التظاهر حق مكفول بالدستور وجميع المطالب الاجتماعية المنادية بالتنمية مشروعة ولا تنازل فيها إلا بما تسمح به قدرات الدولة ومؤهلاتها وإمكانياتها، على قلّتها في ظرفها الحالي، لكن الوعي المجتمعي كامن فينا ومرسخ في أطياف كبيرة منا. وعي يفترض أن يبنى وفق مناهج وقيم أصيلة تربّى عليها التونسيون وهي من صميم ثقافتهم وتقاليدهم الضاربة في القدم. في هكذا مستوى من الحديث يقول السبسي “ليس كل مظاهرة شرعية. إلى أين تسير الدولة؟”. الناشطون في الركن المظلم والباحثون في مستنقع الألفاظ والعبارات وكيفية تطويعها يؤرقهم مثل هذا النوع من الخطابات الداعية إلى التهدئة والتكاتف وتغليب لغة الحوار لحل القضايا العالقة وأولها معضلة التشغيل التي استعصت على الدولة في السنوات الأخيرة. من المستفيد الأول من الدعوة إلى تأجيج الشارع وتحريكه أكثر في ظل ظرف متهاو وكل مستلزمات الإنذار بوقوع أزمات قد تخلّ بالأمن العام للدولة وتهدد كيانها؟ تونس جربّت هذا النوع من الأساليب منذ قيام حكومات ما بعد الثورة إلى يوم الناس هذا، خصوصا في فترة حكم الترويكا التي عرفت بخروجها الكامل عن النص، لكن ماهي النتيجة، ماذا تغيّر بالاحتجاجات والاعتصامات وقطع الطرقات؟ لسنا من دعاة صفر مشاكل ولسنا أيضا من المستضعفين الذين يمكثون ويدكون رؤوسهم في الرمال ويديرون الظهر للأزمات العالقة، ولسنا أيضا من المتستّرين على عمق الفظائع التي ارتكبت بحق التونسيين والتونسيات، لكن مخرجنا من كل أزماتنا الراهنة والتحديات التي تنتظرنا بين أيدينا جميعا. مستقبل تونس لا يرسمه إلا التونسيون الذين ضحوا بأرواحهم ومازالوا على العهد باقين، فيما الأصوات النشاز على كثرتها، مصيرها الهوان والفناء صاغرة مستصغرة بلا رجعة. كاتب من تونسحبيب المباركي
مشاركة :