سياسات إصلاحية في السعودية على طريق تفكيك البنية الصحوية بقلم: همام طه

  • 10/4/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

سياسات إصلاحية في السعودية على طريق تفكيك البنية الصحويةالخطاب الأصولي يتفاعل مع الخطوات التحديثية التي تتخذها القيادة السياسية في السعودية بطريقة تجعل المراقب البسيط يظن أن ذلك هو موقف انفتاحي، إذ كيف يبيح اليوم ويؤيد ما كان يحرمه ويجرمه بالأمس؟ والحقيقة أن الأمر ضرب من الانتهازية والاستثمار في كل شيء، ذلك أنه يصنع فتاوى التأييد المتناقضة لينقضّ على كل حركة إصلاحية ويجيّرها باسمه من أجل تكريس عقيدته الإقصائية المتطرفة.العرب همام طه [نُشر في 2017/10/04، العدد: 10771، ص(13)]لا حاجة إلى سائق بعد اليوم الخطاب الأصولي ينتقل من التطرف إلى الاعتدال الظاهري وبالعكس، بسرعة وانتهازية وازدواجية عالية وقدرة على التقلّب والتلوّن كي يبقى في الصورة ويواصل محافظته على مكانته ومكاسبه الثقافية والفكرية والاجتماعية وسيطرته على الفضاء العام منذ اندلاع الاتجاه الديني الصحوي في الشرق الأوسط. ويتعامل بعض رجال الدين الأصوليين مع التحولات السياسية وقرارات الانفتاح الاجتماعي والثقافي كما تعاملوا من قبل مع التطورات التكنولوجية، فإباحتهم لاستخدام الفضائيات في التبشير الديني بعد ممانعة وتحريم لم تعبّر عن انفتاح على الحداثة، لكنها عكست الرغبة في توظيف تقنيات الإعلام لنشر أفكار الصحوة الدينية، أي أن انفتاح الأصوليين يهدف في عمقه إلى تعزيز الانغلاق وتمكين التعصب أمام التحولات والتقلبات المحيطة. وما نعتقده اعتدالا من بعض الصحويين هو ليس في الواقع سوى استغراق في التطرف، إذ تتسم العقلية الأصولية، على المستوى الفكري، بيقينية الاعتقاد بنقاوة الذات الدينية والفقهية، أما على المستوى السلوكي، فتتصف بالنفعية الشديدة والحرص على اقتناص الفرص لتأكيد تفوّق وأفضلية المفاهيم التي تدافع عنها. ومن الأمثلة على هذه الظاهرة لجوء أحد الشيوخ الصحويين إلى تبرير التحول اللافت في الموقف الأصولي من قيادة المرأة للسيارة من الرفض إلى التأييد، على وقع القرار الملكي السعودي الإصلاحي بتمكين النساء من القيادة، بأن القرار “يساعد على الاستغناء عن السائق الأجنبي” بمعنى أنه يبرر هذا “الاعتدال” المفاجئ المفترض في موقف الأصوليين باستدعاء المنطق الذكوري الذي كانوا يستندون إليه في تحريم قيادة المرأة للسيارة وهو أنها تتسبب في “الخلوة المحرمة” بالمرأة التي هي بالنسبة إلى الأصوليين “عورة” في الحالتين؛ عند تحريم القيادة وعند تحليلها، يَحرمونها من القيادة حفظا لها من “الاختلاط” بغير المحارم ثم يبيحون لها أن تقود السيارة كي تستغني عن الاختلاط بالسائق الأجنبي، أي أن القضية تدور حول الفكرة الأصولية الذكورية الذرائعية نفسها، ولا علاقة لها عندهم بحقوق المرأة.يحرمونها القيادة حفظا لها من الاختلاط ثم يبيحون لها أن تقود كي تستغني عن الاختلاط بالسائق الأجنبي إنها الوصاية التي تجسّدها مفاهيم أبوية التأويل حول ولاية الرجل، والتي يبدو أن مسار تفكيكها قد ابتدأ رسميا على يد القيادة السياسية السعودية في إطار رؤية لتكريس مفهوم المواطنة ودعم التنمية الاقتصادية عبر فكّ القيود والأغلال الثقافية وتعزيز التفاعلية المجتمعية، ذلك أن قرارات الإصلاح الاجتماعي والتغيير الثقافي حين تأتي من السلطة السياسية فإنها تكون أكثر فاعلية وإسهاما في وضع المجتمع على سكّة التحديث والاستنارة العقلانية. أما حين تأتي من جهات دينية فإنها تؤدي إلى تأكيد هيمنة الصحوة على المجتمع مهما بدت فتاوى هذه الجهات منفتحة أو معتدلة لأنها تعزز سلطة الفقهاء على عقول وضمائر الجمهور وتهدف إلى إعادة إنتاج السطوة الصحوية لا تفكيكها، ولذلك نلاحظ مسارعة المؤسسة الصحوية المتشددة إلى إعلان تأييدها للقرارات الإصلاحية الصادرة عن الفاعل السياسي في السعودية لأنها تريد تسويق نفسها من خلال هذا التأييد عوضا عن أن تتحمل مسؤولية مراجعة التراث الفقهي. الخطوة السعودية الجريئة منحت القرار السياسي العربي زمام المبادرة في الإصلاح الديني والاجتماعي وأعطته بعدا تحديثيا وأثرا عميقا يصب في صالح التغيير الحضاري والتنوير الثقافي والتثوير الاجتماعي لأنه اعتمد على فاعلية “الإرادة السياسية” للدولة في تحقيق التحولات التاريخية، حيث يرى الأكاديمي العراقي فائق حسن الشجيري، في دراسته الموسومة بـ”أثر الإرادة السياسية في بناء القدرة الاقتصادية للدولة”، أن من المقومات الأساسية للإرادة السياسية وجود نخبة حاكمة تحرّك أو توجّه عمليات التحديث، ذلك أن المشكلات التي يتوجب على قادة الدول النامية حلّها هي مشكلات حضارية ترتبط بالموروث الاجتماعي، فالمطلوب من النخبة الحاكمة صنع إرادة سياسية ترتبط بخصوصية الدولة وبنائها الاجتماعي. وبالتالي فإن القرار الملكي السعودي المنحاز إلى حقوق المرأة هو قرار سياسي في مجال اجتماعي ولكن آثاره ستكون رمزية وثقافية وقيمية واقتصادية واسعة النطاق لأنه يعكس حضور وتبلور الإرادة السياسية لدى صانع القرار وتطلعه إلى ما هو أبعد من مجرد منح رخص القيادة للنساء، حيث يعتقد الشجيري أن الإرادة مكوّن أساسي لقوة الدولة وهي الركن المعنوي لقدرتها الاقتصادية والتي تنقلها إلى مركز أكثر تقدما في هرم القوة العالمي. ريادة قرار تتجلى ريادة القرار السياسي اليوم في أنه صار المحفّز للتجديد الديني والمنشّط للتحول الثقافي، ففي عام 1990 جاء قرار وزارة الداخلية السعودية بحظر قيادة المرأة بعد صدور فتوى دينية تحرّم الأمر، أما اليوم وبعد أكثر من ربع قرن، فإن الفتاوى الدينية هي التي صارت تتوالى لتأييد قرار سيادي وريادي اتخذه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز بتمكين المرأة من القيادة، أي أن الفاعل الديني صار تابعا للفاعل السياسي، وباتت الأصولية الدينية خاضعة للحداثة السياسية والاجتماعية، وتمكنت الإرادة المدنية للدولة من ترويض الإرادة الصحوية وتدجينها، ما يعني انطلاق قافلة التحديث.تحديثات سياسية بمثابة الغيث النافع القرار الملكي مثمر في حدّ ذاته كانتصار لحقوق المرأة، ومؤثر في أبعاده الموضوعية كاستدارة في مجال الحوْكمة والتدبير الرشيد وانتقاله في النهج السياسي المعتمَد في التعاطي مع الشؤون الاجتماعية على مستوى العالم العربي، وانعطافه في مجال التبلور التاريخي للهوية الحضارية للمملكة، إذ يشكّل هذا القرار الثوري والنوعي اختراقا حقيقيا في بنية التشدد الصحوي والجمود الاجتهادي ويفتح الباب ويمنح الشرعية لجهود وأنشطة التنوير والانفتاح في المجتمع السعودي ومن ورائه المجتمعات الخليجية والعربية والإسلامية لما تتمتع به السعودية من رمزية في الوعي الإسلامي. كما يؤكد القرار أهمية عامل الاستقرار السياسي للأنظمة في توفير الشرعية السياسية للقرارات الإصلاحية ويرد الاعتبار لدور الدولة في التحديث ولا سيّما حين يوضع في السياق العربي الذي يشمل أيضا الإصلاحات التونسية في مجال تمدين وعلمنة المواريث والزواج؛ لكن ما يمنح الخطوات السعودية بعدا استثنائيا هو المكانة التي تتمتع بها السعودية في العالم الإسلامي وصدى سياساتها ونظرة الآخر الغربي للإسلام. لا يستطيع الخطاب الصحوي التحرر من المرجعية الأصولية التي ينطلق منها، فقد حرّم الفقه الأصولي قيادة المرأة للسيارة وفق مغالطة “سد الذرائع” أي تحريم الأمر خوفا من “مفاسد” افتراضية تترتب عليه ثم قرر هذا الفقه التكيّف مع القرار السياسي فحلّل قيادتها بدعوى دفع “مفاسد” افتراضية أيضا مثل الاختلاط بالسائق الأجنبي، علما أن مفهوم “المفاسد” نفسه هنا ملتبس وإشكالي، فمَن قرر أن كشف الوجه أو التعامل مع الذكور أو استخدام سائق أجنبي هي من “المفاسد”؟ أضف إلى ذلك أن بعض المفاسد المفترضة كانت مسيئة ومتهافتة وغير علمية مثل الخشية من تضرر مبايض المرأة أو فقدان عذريتها نتيجة الجلوس خلف المقود. إن من أولى صفات صانع القرار السياسي هي التحلي بدرجة عالية من الإيجابية والمرونة والقدرة على الربط بين حاجات الأفراد وحاجات الدولة، وبين حقوق المواطنين واستحقاقات التنمية، فالدولة المعاصرة تقارب مفهوم الضبط الاجتماعي من خلال إطلاق الحريات وصيانتها لا عبر تقييدها أو مصادرتها، بمعنى أنها تجعل من الانضباط سلوكا ذاتيا قائما على الوعي وحرية الإرادة والاختيار وليس سلوكا قسريا مرتبطا بالتحريم والتجريم. لكن القرار السياسي يبقى مثل البذرة التي تحتاج إلى بيئة اجتماعية وثقافية خصبة ومتكاملة كي ينبت فيها ويثمر وهنا تأتي مسؤولية المجتمع فالاستسلام للثقافة الصحوية الأصولية هو من أخطر معرقلات التقدم، حيث أن رفض قيادة المرأة للسيارة لم يستند فقط إلى التحريم الأصولي ولكنه استمد مشروعيته أيضا من تأييد بعض النساء اللواتي تعرضن للاستلاب الصحوي فصرن يمارسن الإكراه الذكوري على أنفسهن. ذهنيتان في مدينة واحدة تقول الروائية السعودية أميمة الخميس في كتابها “ماضي مفرد مذكر”، “يوما ما نظمنا محاضرة للموظفات للتوعية بأهمية الكشف المبكر للوقاية من سرطان الثدي، قالت الطبيبة مقدمة الندوة من باب الهزل أنها تتمنى أن تفحص ثديها فحصا ذاتيا وأن تقود سيارتها ذاتيا. إحدى الحاضرات وبخت الطبيبة، ووبختني وأبدت امتعاضها لأن الطبيبة حضرت للتوعية بسرطان الثدي وليس لبث الأفكار المارقة حول قيادة المرأة للسيارة، كانت تقوم بهذا من باب الاحتساب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).. وأحسست ساعتها بالاختناق، هل تكفي المدينة لنا نحن الاثنتين؟”. لا ينظر الفاعل الديني الصحوي إلى القرارات الإصلاحية التي يصدرها الفاعل السياسي الريادي من زاوية حقوق المرأة كإنسان ومواطنة وفرد يستحق المعاملة بعدالة ومساواة؛ ولكن من زاوية الشرعية الدينية التي تتمحور حول المفاهيم الأصولية والثقافية التقليدية نفسها مثل الحيطة من الفتنة وعقدة عدم الثقة في المرأة. ولذلك سارع أحد الأصوليين إلى الحديث عن أهمية القرار الملكي في الاستغناء عن السائق الأجنبي غافلا عن أن تحريم فقهاء الصحوة لقيادة المرأة ابتداء، هو الذي تسبب في زيادة الاعتماد على السائق الأجنبي مع ما ترتب على ذلك من سلبيات اجتماعية واقتصادية، أي أن مفهوم “سد الذرائع” اشتغل ضد نفسه فأدى الحذر من مفاسد افتراضية مترتبة على قيادة المرأة إلى وقوع مفاسد حقيقية أفرزها حرمانها من القيادة.الإرادة المدنية للدولة السعودية تمكنت من ترويض الإرادة الصحوية وتدجينها، ما يعني انطلاق قافلة التحديث ولذلك نتوقع لقرار الملك سلمان بن عبدالعزيز بخصوص قيادة المرأة أن تكون له آثار رمزية مستقبلية مهمة وبنيوية على صعيد تعزيز مفهوم المواطنة وترسيخ فكرة الحرية الفردية في المجتمع السعودي، إذ سيكون أرضية لانطلاق صحوة حداثية ومدنية معاكسة للصحوة الدينية، كما سيوفر مظلة لمقاربات أكثر عمقا ومعاصَرة للنص الديني بما يسمح بإنتاج منظومة تأويل تختلف جذريا عن المنظومة المتشددة فالاستدراك السعودي يمكن أن يفتح الباب لحراك فكري ديني وفقهي في الفضاءات العربية والإسلامية، وسيضع مختلف المؤسسات الدينية الرسمية والتقليدية أمام مسؤولياتها في مراجعة التراث الفقهي والموروث الإفتائي المعيقين للتقدم والازدهار الاجتماعي. ويوضح لنا قرار القيادة السعودية بالسماح للنساء بقيادة السيارات كيف يمكن للإرادة السياسية المتفاعلة مع التحولات والحاجات الثقافية والجيلية أن تلزم المؤسسة الدينية الصحوية بتبني مواقف إصلاحية، لكن بعض فقهاء هذه المؤسسة يحاولون من خلال توظيف الخطاب الذرائعي تأويلَ السياسات الإصلاحية للدولة بمنطق ديني نفعي عبر إقحام التفسير الأصولي على المنطق الإصلاحي لكن تواتر الإصلاحات التي تستجيب للحقوق والحاجات الإنسانية، في الحالة السعودية سيؤدي إلى الحفر بصورة جوهرية في بنية الهيمنة الأصولية على الوعي العربي وتفكيكها تدريجيا، تلك البنية التي بدأت تتشكل منذ عقود في المجتمعات العربية وكوّنت البيئة الحاضنة للتشدد والتكفير. وعلى الرغم من أن الكثير من رموز الصحوة وشيوخها يسوّقون أنفسهم كخصوم للتطرف، فإن الصحوة هي مفهوم إخواني في الأساس، إذ يرى الباحث السعودي علي الخشيبان أن الصحوة الدينية حتى في نسختها السعودية هي امتداد طبيعي للفكر الإخواني ولمفهوم الصحوة الذي وُلد في أحضان جماعات الإسلام السياسي، ومن ثم ترعرعت في بيئة الحرب الأفغانية والتغيرات الاقتصادية ولن تموت إلا بتطور المجتمع وتطويره. ويضيف الخشيبان أن الدعوة الدينية مثّلت النشاط الأول لتنظيم الإخوان السياسي في مصر وهي ترتبط بخيط رفيع لا يُرى بتسييس الدين، موضحا أن هذا الارتباط مجسّدا في ظاهرة الصحوة أنتج في مجتمعاتنا تصورا مضطربا للفكر الإسلامي، ومن رحم هذه المتوالية التي شرحها الخشيبان وُلدت الأرضية التي نبتت فيها فتاوى التحريم، إذ أن سردية مقاومة التغريب والتحلل الأخلاقي هي فكرة مركزية في الأيديولوجيا الإخوانية. ويؤكد هذه المقاربة ما ذهب إليه الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا، في كتابه “زمن الصحوة”، من أن المواقف التي اتخذها الشيوخ الصحويون الجدد بشأن القضايا الاجتماعية تمحورت حول شجب ما اعتبروه تشجيعا على الانحلال الأخلاقي؛ وفي هذا السياق انحصرت معاركهم في مكافحة أي تغيير لنظام التعليم أو لوضع المرأة. وتعليقا على رأي لاكروا، يعترف رجل الدين الصحوي سلمان بن فهد العودة، بأن الصحوة كانت منتجا إخوانيا، ما يعني أن بيئة “المزايدة الدينية” التي صنعها التبشير الدعوي، لعبت دورا في تخليق المناخ التحريمي المنغلق الذي أفرز فتاوى قهرية مثل تحريم قيادة المرأة للسيارة، وهو ما يسلّط الضوء على العوامل الأيديولوجية التي أنتجت التحجّر الفقهي الذي اعتاد بعض الباحثين ربطه حصرا بالطبيعة القبلية أو الذكورية للمجتمع السعودي أو بالانغلاق الفقهي السلفي لوحده من دون الإشارة إلى أثر الوعي الإخواني الذي سرّبته الصحوة. همام طه

مشاركة :