انفجرت الأزمة مع الأشقاء، في اللحظة التي لم تكن الدوحة، قطعت تماما مع المارقين من الإرهابيين الذين هم من السنة، ولم تبدأ تماما العلاقة مع الإرهابيين من الشيعة، وإنما أكدت على انحيازها لطهران كتوطئة للعلاقة المرتجاة.العرب عدلي صادق [نُشر في 2017/06/06، العدد: 10655، ص(9)] منذ أن تفاقمت أزمة قطر مع عدد من الدول العربية الوازنة، على إثر بث ونشر تصريحات أميرها ضد هذه الدول؛ لم يكن خيار صاحب التصريحات، منطقياً ولا راشداً ولا ينم عن رغبة في احتواء الأزمة التي هي في المحصلة أزمته هو. كان المفترض في الأمير الشاب، ومن ورائه أبوه بكل خبرته، ومستشاروه، أن يبادر إلى خطوة تصالحية حقيقية، ذات حيثيات وغير ذات ألاعيب ومناورات، وسيكون ملوك ورؤساء وشيوخ الدول الشقيقة، مستعدين للتعامل مع تصريحاته كأنها لم تكن. وللأسف، لم يدرك الشيخ تميم بن حمد، أن الأمر لن يقف عند حدود التهاجي الإعلامي، وأن اللعبة هذه المرة خطيرة، وأن الحكم في قطر، بات أمام أحد احتمالين، إما أن يواجه تدابير صارمة يصعب احتمالها وتصور مآلاتها، وإما أن “يلم الطابق” كما يقولون. فالمشكلة هذه المرة، تتعلق بمصير أمة باتت في حاجة إلى استجماع صفوفها، لكي لا تتمادى أمم أخرى في استضعافها، ويتفشى الإرهاب في داخلها، فيستنزف المقدرات والدماء ويتهدد المصائر. ففي مثل هكذا ظروف، يكون الخروج عن الصف، قرين الاصطفاف علنا مع الأعداء أو الخصوم. فعندما يضع تميم بلاده بموقعها الجغـرافي، وبالسمات الاجتماعية لشعبها في الاتجاه المعـاكس لوجهة شقيقاتها، يصبح الأمر بالغ الخطورة، لا سيما وأن قطر، بموقعها في المنظومة الخليجية والعربية، هي في داخل الدار، وليس أفدح ولا أخطر من التمرد داخل الدار في الظروف العصيبة. عندما فوجئت الأقطار العربية بتصريحات تميم، وبدأت ردود الأفعال تتوالى، كان يتوجب على دولة قطر أن تصحح موقفها وتدرك أن زمن المناورة وتزويج المتناقضات، قد انتهى إلى غير رجعه، ولم يعد بإمكان الدوحة لا الضحك على الذقون ولا تصدير الأزمات، وأن دور “الجزيرة” التي تأسست بتقنيات بي بي سي العربية وكادرها، عندما أُغلقت بعد فترة وجيزة من ظهورها على خلفية موقف سعودي منها؛ قد اقترب من نهايته من حيث هو مشروع للحملات الإعلامية المدبرة، التي يبذل لها نظام الحكم القطري كل أكلاف الإعداد والبرامج الباهظة، بذريعة نُبل المسعى لتكريس الرأي والرأي الآخر. لقد كان الهدف أساساً، هو إزعاج السعودية والتنفيس عن الاحتقان الناشئ عن الحادث الحدودي بين البلدين. لم يكن من الحكمة، أن تتمادى قطر الصغرى، في المكائد ضد بلد شقيق وكبير كالسعودية، كان موقفه سبباً في تشجيع خليفة، جد تميم، على الإطاحة بابن عمه الشيخ أحمد، الذي ائتمنه على معظم الحكم عندما اختاره رئيساً للوزراء. فإن لم يكن الاستنكاف عن وقف المكائد، وفاءً لتثبيت خليفة الذي أطاح به ابنه حمد، فليكن عن تفهم لحقيقة أن السعودية بلد شاسع والحكم راسخ فيه، وليس لقطر قدرة على زعزعة استقراره وقلب نظام الحكم فيه. في الحقيقة، من هنا ولد غرام الحكم في قطر بكيانات الإسلام السياسي من كل لون ومن كل جهة. كان الهدف هو اللعب بمسألة الدين، لأن بلدا يحكمه ملك يوصف بأنه “خادم الحرمين الشريفين” لن يجدي معه إلا استخدام الدين. معنى ذلك أن غرام الحكم في قطر، لم ينشأ عن تقوى أو عن قراءات في العلوم الشرعية، أو عن تأس على حال الأمة الإسلامية وحال فلسطين، وإنما نشأ عن رغبة في إظهار السعودية مقصرة في واجباتها الشرعية ومنها الواجبات “الجهادية”، وهذا هو الذي يؤثر ويحرض شرائح من المجتمع السعودي الذي تربى على الثقافة الإسلامية. كان ذلك هو الافتراض، وكان هذا هو المأمول. في ذلك السياق، جرى استخدام موضوع فلسطين، على الطريقة الإيرانية، من الموقع السُني، لكي تتبدى قطر متقدمة “جهادياً” عن سواها، وسباقة إلى ما تتطلع إليه وتتمناه الأمة. ولكي لا يسيء فهمها الأميركيون، فقد أسست عاجلاً، علاقات متشعبة، سرية وعلانية، مع إسرائيل، وكان يُفترض من حماس أن ترى في مثل هذه العلاقات التي لا داعي لها ولا تبررها في الأساس، أي ضرورات جيوسياسية أو اقتصادية؛ أن تدرك المغزى فلا تعوم على شبر ماء. ونقول هنا حماس ولا نقول “الإخوان” لأن “الإخوان” بالمجمل، ذوو مشروع مختلف، ومعتادون تاريخياً على التحالف مع حكومات حافظت على علاقات سرية دائمة مع إسرائيل، في مرحلة نهوض حركة التحرر العربي، عندما كانت العلاقة مع إسرائيل من أكبر الخطايا. وفي تداعيات ما حدث في السياق القطري، كان الحكم في الدوحة، كلما أحس بفشله في أن يربح ويجمع حصاداً من دسائسه، يتوغل أكثر في طريق الإيذاء وتصدير الأزمات ومحاولات تفجير المجتمعات من داخلها. وكانت بوصلته تتغير بتأثير من غريزته الأولى، وهي النزعة إلى إيذاء محيطه. وإن قلنا إن شر البليّة ما يُضحك، سنكون بصدد مقدمات لتغيير دراماتيكي، ربما يستغرب الكثيرون استشرافنا له. فقد توصل تميم وأبوه، إلى قناعة بأن جماعات ما يُسمى بـ”السلفية الجهادية” في الإقليم باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وهي برسم الإبادة، ولن يتبقى منها سوى معتوهين هائمين على وجوههم في الأقطار الأوروبية وفي هوامش بلدان فاشلة. وهؤلاء ليس أمامهم إلا الانتحار، ولن يذهبوا إلى الانتحار بغير أقراص هلوسة تجعلهم يتوهمون أن موتهم عند جسر لندن مثلاً، سيكون بشارة الفتح والنصر لغزوتهم في بلاد الإنكليز. ولأن الإرهابيبن ذاهبون، ولأنهم في الأصل جماعات لا تجرؤ الدوحة على المجاهرة بمساندتهم، فليس أوجب من التحول إلى استرضاء جماعات أخرى، تكون هذه المرة “أصولية شيعية” تقف وراءها دولة تجاهر بأن هذه الجماعات منها وهي منهم. ولحسن الحظ، بالنسبة إلى تميم وأبيه، أن إيران تمادت في تهديد أمن الخليج، وفي الخصومة مع السعودية، وتوغلت في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ما يعني أن “البعبع” المطلوب، لتخويف الأشقاء، موجود ولا تؤذن الأحداث باندثاره مثلما هو حال جماعات “السلفية الجهادية”. هكذا انحازت قطر إلى إيران، وتوهمت أن هذا هو الخيار الصحيح أو خيارها الأخير. وانفجرت الأزمة مع الأشقاء، في اللحظة التي لم تكن الدوحة، قطعت تماماً مع المارقين من الإرهابيين الذين هم من السُنة، ولم تبدأ تماما العلاقة مع الإرهابيين من الشيعة، وإنما أكدت على انحيازها لطهران كتوطئة للعلاقة المرتجاة. وفي هذه الغضون، أطلق تميم بالون الاختبار، بتصريحات غير معهودة في العلاقات الخليجية، ولما رأى أن ردود الأفعال قوية، أنكر التصريحات وزعم أن اختراقاً حدث وافتعلها. وبدل أن يسلك الطريق الصحيح، راح يُصعّد ويوحي بالتمسك بمواقفه، وهي خطيرة أصلاً، ما اقتضى البدء بالخطوات العملية لوقفه نهائياً عند حدوده بكل أبعادها. كاتب ومحلل سياسي فلسطينيعدلي صادق
مشاركة :