لم يعد في مكة سبب لبقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يترك المشركون سبباً لمنعه من نشر الدعوة، ولم يعد في مكة أحد من صحابة النبي رضوان الله عليهم، ولم يعد في يثرب سبب يؤجل هجرة الرسول الكريم، أو يحول دون بناء المجتمع الجديد الذي يتطلع إلى استقبال الدين الحق. فعند مشركي مكة قد بلغ الأمر مداه، ولم يعد أمامهم غير محاولة أخيرة لمنع نجاح محمد بن عبد الله في دعوته، وهي الاستهداف المباشر، فاجتمعوا في «دار الندوة» (مجلسهم الذي يتشاورون فيه في القضايا المصيرية التي تحيق بهم)، وفي هذا المكان اقترحوا أكثر من حل للقضاء على محمد ودعوته، فقال بعضهم: نضع القيود في يده، ونشد وثاقه، ونرميه في السجن، ولا يصل إليه طعام، ويترك على ذلك حتى يموت. وظهر رأي آخر يرى أن يُنفى محمد من مكة فلا يدخلها أبداً، وبهذا تنفض قريش يدها منه. وقد استبعد هذان الرأيان لعدم جدواهما، خاصة الرأي الأخير لأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد يستجير ببعض القبائل، ويمثل تهديداً أمنياً واقتصادياً لمكة، وهنا برز رأس الكفر في قريش أبو جهل واقترح على المجتمعين أن يأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً، ثم يعطوا كلاً منهم سيفاً صارماً، ثم يضربون محمداً جميعاً ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، وأضاف قائلاً: ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كافة، فإذا لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها. ووافقه المؤتمرون على ذلك، وبدأوا الإعداد لتنفيذ مكرهم، وفي انتظار ساعة الحسم، وأمام هذا البطش البين والمكر الخادع يقول الله تعالى: {إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وفي ذلك يقول صاحب الظلال: إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط.;
مشاركة :