عاشق التراث السرياني يعمل في المهجر الآن على استكمال مشروعه الموسيقي الكبير حيث الفضاء رحب في شمال أوروبا لبصمة موسيقية مختلفة.العرب ملكون ملكون [نُشر في 2017/06/25، العدد: 10674، ص(9)]موسيقار عتيق يوثق الألحان ويكتبها للأجيال القادمة ستوكهولم - “اللهم اخلق لي قلباً نقياً، عفيفاً، طاهراً، بسيطاً، لا يفكر بالشر، ولا تأوي إليه الشهوات. قلباً نقياً، لا يعرف الثلب ولا يغتاب قريبه. قلباً نقياً، يملأه الحب دائماً، وفي كل حين يبتغي الأمان والسلام لكل إنسان. قلباً نقياً، يحب الصوم والصلاة و السهر وإذلال الجسد والعمل والتعب دائماً. قلباً نقياً يبتغي التواضع ويلزم السكينة والبشاشة مع الجميع. قلباً نقياً أكلته غيرة بيتك، ولا يقعد عن مناصبة مخالفي شريعتك. قلباً نقياً يحب الصدقات ويوزعها ويشفق على ذوي الحاجة ويروي بني جلدته. يا مُحب البشر ضع فيّ مثل هذا القلب واغرس مخافتك كالغرسة النامية. يا رب هب لنا نقاوة القلب لنكون مؤمنين حقيقيين باسم الرب يسوع المسيح له المجد”. هذه هي كلمات المعلم الأكبر لسريان المشرق مار أفرام السرياني الذي اتخذوه جميعاً مثالاً وأيقونة. وربما كان على العرب منهم بخاصة، أن ينتظروا شتاتهم الكبير، ليروا ما أهدره الزمن من كنوز في حياتهم. وربما كان علينا أن نبحث في تفاصيل السنوات الكارثية الماضية عمّن شردته الحرب وكاد يطويه نسيان مقيت وظالم كما كان في بلده ينتظر من يربّت على كتفه بحنوّ. ومن بين هؤلاء الذين مازال أهل المشرق محظوظين بفضل بقائهم على قيد الحياة، الموسيقار السوري السرياني الكبير نوري إسكندر، الذي يبدو كما لو أنه يأتي من زمن قديم، من زمن مار أفرام ذاته، لكن بكل العدة اللازمة لهذا العصر جمالياً ومعرفياً. وهو الذي يسميه الناس “الملفان” أي “المعلم” ويناديه تلاميذه بـ”ملفونو” أي “معلمنا”، وكل هذه الكلمات آتية من كلمة “إيلاف” السريانية التي تعني “العلم”. فمن مدينة الرها أو ما يعرف اليوم بـ”أورفه” هاجرت عائلة نوري إسكندر في بدايات القرن الماضي إلى الجنوب. ولمن لا يعرف مدينة الرها فإنها تحمل أكثر من اسم، كما هو حال اسمها بالإغريقية “إديسا”. وتعتبر مهد الفلسفة والأدب السرياني، وتتموضع جغرافياً في أعالي الجزيرة الفراتية، في شمال سوريا بين نهري دجلة والفرات. بعد أن بنيت في موضع أقرب إلى الفرات منه إلى نهر دجلة، إذ تبعد عن الفرات 8 كيلومترات إلى الشرق. أرض الموسيقى القديمة بسبب الموقع الجغرافي للرها، فإن عائلة إسكندر تنقلت ما بين عين العرب وتل أبيض في المنطقة التي تدور فيها المعارك اليوم، قبل أن تستقر في مدينة دير الزور لتبقى على مقربة من نهر الفرات. وعلى ضفاف الفرات ولد نوري عام 1938. لكن قبل أن يرتوي الطفل من ماء الفرات كانت الظروف الاقتصادية للعائلة تحتّم الهجرة من جديد نحو حلب، وفيها كانت الموسيقى هاجسه الجميل، فبدأ في الفرقة الكشفية عازفاً للترومبيت، ثم عكس اتجاهه نحو آلة الكمان ليدرسها لسنة واحدة قبل توجهه للقاهرة لدراسة الموسيقى فحصل عام 1964 على ليسانس من المعهد العالي للتربية الموسيقية بالقاهرة. بعدها عاد إسكندر لحلب ليتفرغ لعشقه الدائم وهاجسه اليومي؛ الموسيقى المشرقية بتراثها وتاريخها وعمقها الحضاري. يعتبر إسكندر من أكثر الباحثين والمؤلفين الموسيقيين السوريين اهتماماً بتوثيق الموسيقى السورية القديمة ولا سيما السريانية الكنسية منها والمدنية، والتي تعود لكل من مدرسة الرها ومدرسة دير الزعفران، حيث حوّلها من تراث شفهي معرض للضياع إلى مدوّنات جمعها في كتابين وفق نظام الكتابة الموسيقية الحديثة “التنويط”. تمرده الإبداعي دفع إسكندر إلى تحقيق تداخل للأجناس والعلاقات ما بين المقامات الشرقية والغربية عبر تجارب الثلاثي الوتري كونشرتو لآلة العود مع أوركسترا الحجرة، وكذلك كونشرتو لآلة التشيللو مع أوركسترا الحجرة.مشروع موسيقي ضخم يعكف عليه الموسيقار نوري إسكندر يلخص فيه تبحره في الموسيقى الشرقية والغربية، ساعيا للاستفادة من التأثيرات السحرية الموجودة في العنصر اللحني المركب من مسافات ميكروتونية والموجودة في المقامات الشرقية، ومزجها مع الهارموني والبوليفوني في الموسيقى الغربية ضمن قوالب مفتوحة بأشكالها المختلفة المنسي والمتعب من بين شاربيه الكثين كانت الكلمات تُرمى في وجهنا وهو يتحدث عن رحيله عن سوريا بعد صبرٍ استمر أربع سنوات، لعل وعسى يجد بصيصاً في نفق الظلمة الذي يجتاح بلاده. لم يلتفت إليه أحد. بل بقي معتمداً على راتبه التقاعدي الشحيح لتأمين معيشته ومعيشة عائلته، فاضطر صاحب العمل الموسيقي العملاق “حوار المحبة ” وفرقة شاميرام، وكنز الألحان “بيت كازو” والكورال السرياني ومدخل إلى الصوفية عبر قصيدة “يا واهب الحب” والعديد من الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات السورية، اضطر إلى أن يركب مركب الهجرة باحثاً كما يقول لـ”العرب” عن هدفين “الضائقة المادية وعدم حماية معيشتنا كمبدعين، وكذلك طموحي الموسيقي الذي تجمد منذ أن بدأت الحرب”. ويضيف إسكندر “خشيت أن يسبقني العمر ولا تزال جعبتي مليئة بالأفكار والأبحاث الموسيقية في تحليل الموسيقى السريانية التراثية وأحوّل مشروعي بتمازج الموسيقى الشرقية والغربية، وأعمل على استكماله هنا في السويد بعد أن بقي منسياً مهملاً في بلدي ولم أجد أذنا صاغية لطلباتي البسيطة والتي كانت تتمثل باستئجار غرفة تحوي جهازي كمبيوتر وموظف يساعدني في أبحاثي، ورغم صدمة البداية في السويد والإهمال الذي لقيته حيث عشت أياما صعبة في المخيم دون أن تلتفت مؤسساتنا في المهجر لوجودي، تحسنت أموري عبر صديق ساعدني في الحصول على سكن مريح في مدينة أوربرو السويدية”. سوريا الحاضرة الغائبة الألم السوري في سنوات الكارثة لم يغب عن موسيقى إسكندر، ولكن حضر غائباً. فقد قام بتلحين قصيدة للشاعر إبراهيم الجرادي تتغنى بالشام عشقاً ومأساةً، وكذلك قصيدة للشاعر الراحل أنسي الحاج الذي استشرف المأساة السورية من خلال الوجع الحضاري الذي عاشته سوريا، لكن للأسف لم يتم دعم إنتاج هذين العملين مقابل دعم وإنتاج أعمال غنائية تسمى أغان “وطنية” وهي أبعد ما تكون عن ذلك. ويعمل إسكندر الآن على مشروع موسيقي ضخم يلخّص فيه تبحّره في الموسيقى الشرقية والغربية، إذ يسعى للاستفادة من التأثيرات السحرية الموجودة في العنصر اللحني المركب من مسافات ميكروتونية والموجودة في المقامات الشرقية، ومزجها مع الهارموني والبوليفوني في الموسيقى الغربية ضمن قوالب مفتوحة بأشكالها المختلفة. ويفسر إسكندر ذلك بقوله “كان عليّ في البداية التحرر من الفكر المسبق لكيفية التعامل مع المقامات بشكلها التقليدي. ثم بدأت رحلة البحث عن أشكال لحنية جديدة بقوالب مفتوحة، عبر خلق لقاءات فنية جديدة وحوارات جدلية وتفاعلية، إضافة إلى إيجاد توليفات هارمونية تتناسب مع المفهوم الشرقي والمقامات، مع الحفاظ على روح المقامات الشرقية”.إسكندر يعتبر من أكثر الباحثين والمؤلفين الموسيقيين السوريين اهتماما بتوثيق الموسيقى السورية القديمة ولا سيما السريانية الكنسية منها والمدنية، والتي تعود لكل من مدرسة الرها ومدرسة دير الزعفران، حيث حولها من تراث شفهي معرض للضياع إلى مدونات جمعها في كتابين وفق نظام الكتابة الموسيقية الحديثة (يساراً مار أفرام المعلم الموسيقي السرياني والد المقامات) مثل هذا المشروع الكبير لا بد أن يواجه صعوبات وعقبات لكن شغف البحث والتجريب “غلاّب” لدى الموسيقار العتيق الذي يقول “واجهتني عدة مشاكل، فكان حل إشكالية البوليفوني سهلاً بعد الاستفادة من البوليفونية الموجودة في الموسيقى الغربية، وكذلك تكسير سير المقام اللحني التقليدي فقد استطعت فعل ذلك ممّا وفّر لي فرصة التجول في أرجاء المقام والحصول على مضامين جديدة نابعة من الأشكال اللحنية الجديدة. أما أصعب الإشكاليات فكانت إشكالية التوليفات الهارمونية، فقد جرّبت الكورات الغربية الكلاسيكية على المقامات ولم أنجح. لذلك عدت لتاريخ الموسيقى ودراسة ظاهرة الهتروفينيات المتراكبة والناتجة من تعدد الأصوات أثناء الغناء بالشكل العفوي والبدائي مستفيداً من دوزان آلة البزق والعزف عليها في الموسيقى الفولكلورية عبر دورانات عديدة ومختلفة تستعمل عند كل تعبير لنوع الأغنية أو الملحمة، ولفت نظري أثناء البحث أن قانون الانتقال من المتتابع إلى المتأني أي حدوث شيئين في آن واحد”. والآن يعمل عاشق التراث السرياني في المهجر على استكمال مشروعه الموسيقي الكبير هذا حيث الفضاء رحب في شمال أوروبا لبصمة موسيقية مختلفة. وفي السويد تحديداً حيث تنوع الثقافات واختلافها هاجس يومي للسويديين يعمل إسكندر على تحويل مشروعه الحلم إلى حقيقة. عابدات باخوس في العام 2001 قصد حلب مسؤولو فرقة “زي تي” الهولندية المسرحية للقاء إسكندر والاتفاق معه على تأليف الموسيقى للمسرحية الغنائية اليونانية “عابدات باخوس” التي ألفها اليوناني يوريبيدس عام 400 قبل الميلاد. فجال بهم إسكندر في أرجاء حلب ليسمع هو ومن كانوا معه كل أنواع الموسيقى السورية بألوانها البديعة، فأسندت مهمة التأليف الموسيقي لهذه المسرحية لإسكندر الذي أبدع فيها وأضفى عليها روحاً موسيقية شرقية أبهرت الأوروبيين عندما عرضت في صيف 2002 في بروكسل وفيينا وكولن وأثينا وأمستردام. هذا العمل الغنائي المسرحي الضخم يقول عنه إسكندر “استغرق الإعداد للعمل فترة طويلة ووظفت فيه الألحان المأساوية في المدرسة الموسيقية الرهاوية والتراجيديا الإغريقية، حيث وجدت تقارباً كبيراً بين هاتين المدرستين. وكذلك عملت على إضفاء الروح الشرقية والموسيقى السورية بكافة ألوانها في المسرحية، مما لاقى استحساناً كبيراً لدى الأوروبيين الذين سحروا بهذه الأجواء البديعة. ولأن العمل لاقى هذا النجاح لدى المشاهد والمستمع الأوروبي، ولتواجدي اليوم في السويد فإن حلم تحويل هذا العمل لعمل أوبرالي متكامل بعد إجراء تعديلات فنية ودرامية عليه هو هاجسي حالياً والذي أعمل على تحقيقه هنا مستفيداً من أجواء الحرية وتقبل الثقافات المختلفة”. عندما كان نوري إسكندر يودعنا عند باب بيته أو منفاه، لا فرق، كانت مسحة حزن نبيل ترتسم على ملامحه السمحة والطيبة متسائلاً “هل سيسعفني العمر لإنجاز ما يصطخب في عقلي وروحي من موسيقى؟”.
مشاركة :