القيم ليست معايير ثابتة أو متوارثة أو متناقلة سلفا، فهي ليست أدوات قياس جيوميترية، بل هي متجددة، وليدة عصرها وبيئتها، وبهذا المنظور قد يرى البعض أن اللاقيمة -وهي سمة العصر اليوم- قيمة أيضا. العرب محمد ناصر المولهي [نُشر في 2017/06/30، العدد: 10677، ص(14)] كثيرون بدأوا تجربة الكتابة ثم تركوها إلى أمور أخرى. وقليلون هم من عادوا إلى الكتابة بعد هجرها. أسباب هجر الكتابة تختلف من شخص إلى آخر، هناك من تشغله الحياة اليومية عن الخوض في تجربة الكتابة الصعبة والقاسية. هناك من يصيبه اليأس لعدم نجاعة فعل الكتابة، الذي يتحول مع الزمن إلى فعل اعتباطي بلا جدوى. تشبه الكتابة الماراثون الذي لا ينتهي، هناك من يتوقف في أمتاره الأولى وهناك من يوقفه عطب ما في مسافة أبعد قليلا، وهناك من يواصل إلى آخر رمق، محققا مساره الخاص ومسافته الخاصة. أسباب التوقف عن الكتابة كثيرة، لكن نتوقف هنا عند التجارب الحقيقية لكتاب هاجروا الكتابة رغم أنها تمثل فعلا وجوديا بالنسبة إليهم، لكنهم يتركونها بعد نشر كتاب أو أكثر. وغالبية هؤلاء يصمتون لإحساس عميق بلا جدوى الكتابة خاصة في وقتنا الراهن. إذ اختلط كل شيء ببعضه، الواقع بالخيال، واليأس بالأمل، والرديء بالجيد. الآن حيث فقدان القيمة، إذ ما قيمة الكتابة إن كانت الحياة أصلا بلا قيمة؟ في زمن يقتل فيه الناس بطرق عشوائية ووحشية بلا سبب أو أدنى شيء يدعو إلى ذلك. فالحياة، تلك القيمة العليا، باتت بدورها بلا قيمة، وطالها القتل المجازي علاوة على القتل الفعلي. القيم ليست معايير ثابتة أو متوارثة أو متناقلة سلفا، فهي ليست أدوات قياس جيوميترية، بل هي متجددة، وليدة عصرها وبيئتها، وبهذا المنظور قد يرى البعض أن اللاقيمة -وهي سمة العصر اليوم- قيمة أيضا. اللاقيمة اليوم فرّخت الكثير من الكتاب المشهورين، أصحاب الأسماء اللامعة، والمنجز الهزيل، وحتى الرديء أحيانا. يلفت الانتباه ما يكتبه بعض أصحاب دور النشر مثلا، هؤلاء الذين كانوا في بداياتهم كتّابا، قبل أن تصبح الكتابة بالنسبة إليهم فعلا ربحيا، وتنحصر هناك، في تلك الغاية الضيقة. أغلب أصحاب دور النشر هم كتاب متوقفون، ولا نريد هنا استعمال كلمة “فاشلين” لأنه ما من فشل في الكتابة. هؤلاء أصحاب دور النشر “الكتاب الميتون” إن صحت العبارة، تحولوا بقدرة عجيبة وبدفع من الكثير من الكتاب الآخرين، إلى “مبدعين حقيقيين”، حيث ما إن ينشر أحدهم شعرا أو سردا، حتى تتهافت إليه وعليه الأقلام الممجدة والمرحبة، والمبرزة لخصال فنية متعددة لا نعلم من أين أتت، فيما يتفاقم وهم الكاتب الناشر بذاته القابضة بكل قوة على طريق الكتابة. وله يد في أوله ويد في آخره. له أن يحكم في الإبداع، في ما يمكن أن يُنشَر وما لا يمكن أن يُنشَر. تحول الناشر إلى كاتب كليّ بفعل الطامعين في عطاياه، مثلا أن ينشر لهم، أو يدعمهم بعلاقاته التي يستقيها من حضوره في بعض معارض الكتب العربية، فيكون لهم حظوة لتحقيق دعوة هنا أو هناك. قليلة هي دور النشر التي تستعين بمحررين أكفاء، يمكنهم أن يخففوا من وطأة هذا التغول الفارغ للكاتب الناشر، لكن حتى المحررون أنفسهم هل يمكنهم تقييم الإبداع؟ وعلى أي ضوء يقيّمون عملا ما؟ المحررون الأدبيون أيضا هم كتّاب في الأصل، فيهم من هو كاتب متوقف شأنه شأن الناشر، وفيهم من يستمر على تلكؤ في عالم الكتابة. لذا لا نظن أنه بإمكان هؤلاء الحكم المطلق على نص أدبي سوى من خلال الذائقة، التي قد تصيب وقد تخيب. ربما نأتي هنا إلى دور الناقد، لكن النقاد العرب إلى الآن لا يفصلون بين ذواتهم ككتاب، ربما متوقفين، وكنقاد صارمين، لا ينتصرون إلا للنص، بشكل منفتح متحرر من الأحكام الماقبلية بمعزل عن ذواتهم بمختلف محمولاتها، وخاصة النفسية منها. فإن كان لا يحب شخص الكاتب، فلا يجوز أن يحكم على نص هذا الكاتب من خلال شخصه. إن تحقيق منظومة قيمية تخلّصنا من مجرد الإعجابات “الفيسبوكية”، يكون بالتكافل بين الكاتب والمحرر والناقد والناشر، لكل منهم دوره الذي يجب أن يقدمه كفعل حياة ووجود، مخلصا وصادقا وبكل كفاءة، بعيدا عن حسابات المصلحة، وهذا ما يمكِّن من صناعة قارئ عربي حقيقي، وبالتالي ساحة أدبية حقيقية. شاعر تونسي محمد ناصر المولهي
مشاركة :