الإبداع ضد منظومة الإيمان المتكلسة، وحتى لو آمن المبدع فسيكون إيمانه خاصا، متفردا، لا تقسيم عنده بين الإيمان واللاإيمان، أكثر نفاذا من خرافات رجال الدين. العرب محمد ناصر المولهي [نُشر في 2017/08/25، العدد: 10733، ص(14)] كنت سأكتب مقالا عن الطريقة المثلى لتصير شاعرا أو كاتبا من خلال وسيلة التواصل الاجتماعي الأشهر الفيس بوك، والتي تملك أبسط المنظومات النقدية وأكثرها نجاعة، ألا وهي زر “اللايكات”. الأمر غاية في السهولة، ها أنت ترى، أن تكتب ما ينتظره منك الآخرون، أن تلبي حاجات ما فيهم، أن تكتب لهم وتلامس مناطق في دواخلهم. وليس من حرج مطلقا في الأمر، وبإمكان صاحب قلم وذكاء أن يحقق ذلك، ويصبح كاتبا أو شاعرا فذّا، مشهورا في فضاء يسكنه الملايين. لكنه مجرد لعبة قصيرة العمر، لا تؤسس لشيء، وقد اختارها كثيرون، وهذا حقهم، لكن ما ليس لهم هو انحصارهم فيها، ورفضهم الدائم لكل ما ومن يخالفهم، وغرورهم تجاه مؤسسة النقد، وغيره. طيب لن أطيل في هذا الموضوع الذي أكتفي فيه بفلاشات سريعة، إذ سيطرت علي فكرة وأنا بصدد محاولة رسم بورتريه للكاتب الافتراضي، تبدأ من سؤال طرحته على نفسي: هل المبدع مؤمن؟ السؤال بهذه الإطلاقية يبدو فضفاضا، لكنه وضعني تحت غمار نقاش دار بيني وبين الشاعر الجزائري أزراج عمر، خرجنا منه بفكرة أن الشاعر والمبدع لا يملك هوية قطعية. ولو تأملنا في الأمر، تخيلوا مبدعا لا يمكنه أن يكون بأكثر من هوية -على اتساع مفهوم الهوية وارتباطها بالمستقبل والحاضر أكثر من الماضي- فيما يفترض به أن يمتلك أكثر من وجهة نظر، ربما يحركه خيط ناظم، لكنه لا يعرف ثباتا في جهة أو على أرض واحدة. ظهرت مثلا روايات مثل رواية الجزائري محمد بن جبار “الحركي”، التي تعبر عن فئة منبوذة في الجزائر هي الوشاة أو العملاء، خدام سلطات الاحتلال. وقدمت مناطق خفية من حياة هؤلاء، ما يعطينا رؤية أعمق بعيدا عن الانفعال السطحي. إذن المبدع ليس قاضيا حاكما قطعيا، بل هو المصباح الذي يضيء دون أن يبحث في قيمة ما يضيئه، أخلاقيا أو ماديا أو فيما خارج المادة وفيزيائها. أعود الآن إلى سؤال الإيمان، في الحقيقة سنجد أنفسنا أمام أنواع كثيرة لا حصر لها من الإيمان، كل يؤمن بما يريد، دينا أو فكرة أو عملا أو لونا أو حتى سرّة تستلقي في كوب قهوة. المهم نظن أن أكثر صنوف الإيمان وأعتاها هو ما رافق الإنسان منذ أزله، ألا وهو الإيمان الديني، الذي لا يتوقف عن إبداعه في تحويل الهواجس والأفكار والعقد والتفاصيل الصغيرة والكبيرة للذات البشرية إلى شرائع أو حكايات أو سيناريوهات أو أساطير أو حقائق دينية، ليكون مكملا للجانب الناقص والمفتوح من رحلة الذات البشرية في الكون الشاسع والمجهول. الإنسان كائن لا يمكنه أن يعيش وحيدا، وهذه بديهة أرسطية، وأكثر ما يضمن الالتفاف مع الآخرين العرق والدين، ولا ننسى الجغرافيا، فالمؤمن جزء ذائب في الجماعة وهذه أول الخطى إلى طمأنينة الذات، وإخفاء ذاتيتها. ثم المؤمن هذا يقف على أرض هواجسه وينظر إلى رحلته الذاتية، ويستعين بباب الدين لإغلاق جانبها المفتوح على المجهول، مليء هو بالقواعد والسنن والشرائع التي تفسر كل ما لا يمكن تفسيره، يحظى بإجابات كثيرة لا يقبلها عقله ويصدقها من باب الأمان، والراحة فالإيمان. وللإشارة أغبط كثيرا من يقارنون الديانات بالعلم، العلم الذي لا يعرف توقفا ودحضا لذاته في حركته الهوجاء، فكلما ورد اكتشاف علمي طوع هؤلاء الكتب الإلهية ليقولوا هذا مذكور هنا.. أعود إلى المبدع، لا يمكنني أن أقدم تعريفا للإبداع، حيث هو متجدد دائما، كمنتَج أو كفعل، لكن هناك خصائص متكررة للإبداع، أولها الوعي، والتحرر والخروج عن الضوابط الجاهزة والتساؤل المستمر الذي يخلق الطاقة التي ترج كل الثوابت وتترك الإنسان في حركته الأبدية ضد التكلس والموات. إذا غاب الشك، وحضر اليقين، إذا استبطن مبدع ما نظرة أسلافه جاهزة إلى العالم، نظرة لا تعترف بالمجهول، نظرة خائفة من الحلال والحرام من ما يجوز وما لا يجوز، نظرة لها نهاية واضحة، هناك إلى باب المؤمن ترتطم بظهره وترتد مطمئنة، إذا حدث كل هذا وأكثر كيف يمكن تسمية ما يقدمه هؤلاء إبداعا، حتى ولو كان جمالية ما. نفهم الآن لماذا يقع تكفير المبدعين من قبل المتدينين، فالإبداع ضد منظومة الإيمان المتكلسة، وحتى لو آمن المبدع فسيكون إيمانه خاصا، متفردا، لا تقسيم عنده بين الإيمان واللاإيمان، أكثر نفاذا من خرافات رجال الدين. لهذا يخاف المتدينون الإبداع. شاعر تونسيمحمد ناصر المولهي
مشاركة :