اختلالات الحساب الجاري قد تكون ظاهرة صحية أو علامة على الضغوط الاقتصادية الكلية والمالية ما يجعل تقييمها أمرا معقدا. وإعمالا لمهمة الصندوق في تشجيع التعاون النقدي الدولي، يتم إجراء تقييمات سنوية للمركز الخارجي في اقتصادات العالم الكبرى بهدف تنبيه المجتمع الدولي إلى المخاطر المحتملة التي ينبغي للبلدان أن تعالجها معا. والبلدان، على غرار الأسر، قد تنفق أكثر من مستوى دخلها أحيانا وأقل منه أحيانا أخرى. والبلد الذي ينفق أكثر من مستوى دخله يستورد سلعا وخدمات أكثر ما يصدر ويوصف أن لديه عجزا في الحساب الجاري. وهو يمول هذا العجز بإضافة التزامات تجاه بقية بلدان العالم، أو بالاقتراض منها. والبلد الذي يشهد اختلالا في الاتجاه المعاكس - أي فائض في الحساب الجاري - يراكِم مطالبات على بقية بلدان العالم. ولأن كل اقتراض يجب أن يقابله إقراض، فإن مجموع عجوزات الحساب الجاري على مستوى العالم تساوي مجموع فوائضه - وهو مبدأ يطلق عليه اسم "الاتساق متعدد الأطراف". الاختلالات قد تكون ظاهرة صحية أو مؤشرا للمخاطر: كظاهرة صحية: وفي كثير من الحالات، يمكن أن تكون اختلالات الحساب الجاري ملائمة تماما، بل ضرورية أيضا. فعلى سبيل المثال، في البلدان التي تشهد شيخوخة سريعة بين السكان ــ كعدد كبير من الاقتصادات المتقدمة في أوروبا وآسيا ــ ينبغي مراكمة أموال يمكن السحب منها حين يتقاعد العاملون. وإذا كانت فرص الاستثمار المحلي محدودة، فمن المنطقي لهذه البلدان أن تلجأ إلى الاستثمار في الخارج. والنتيجة هي فائض في الحساب الجاري. ويحدث العكس في بلدان أخرى. فالاقتصادات التي تتميز بارتفاع نسبة الشباب وسرعة معدلات النمو مع كثير من الفرص الاستثمارية تستفيد من التمويل الأجنبي ويمكنها مراكمة الديون "عن طريق عجوزات الحساب الجاري"، شريطة أن تكون قادرة على سدادها من دخلها المستقبلي. كمؤشر للمخاطر: غير أن الاختلالات الخارجية قد تشير إلى ضغوط اقتصادية كلية ومالية ــ سواء على مستوى البلدان المنفردة أو الاقتصاد العالمي ككل ــ، مثلما أوضحت أنا وزملاء في الصندوق ضمن دراسات سابقة. فكما تفقد الأسر المثقلة بالديون القدرة على الاقتراض، قد تصبح الاقتصادات التي تراكمت عليها التزامات خارجية ضخمة معرضة لتوقف مفاجئ في التدفقات الرأسمالية تضطرها إلى تقليص الإنفاق بصورة مفاجئة، ما يزيد من احتمال حدوث أزمات مالية. وفي الوقت نفسه، قد تكون الاختلالات المزمنة عرضا لتشوهات في الاقتصاد المحلي قد تلحِق الضرر بالنمو ــ مثل عدم كفاية شبكات الأمان الاجتماعي ــ ما يشكل دافعا للادخار الوقائي المفرط. ومن ثم تكون إزالة التشوهات والحد من الاختلالات في صالح البلد نفسه. وقد يفيد الحد من الاختلالات المجتمع العالمي أيضا، مما يقلل تعرضه لعدوى الأزمات المالية أو الآثار السلبية للفوائض المفرطة. فمن شأن هذه الآثار السلبية أن تقلص الطلب العالمي وتزيد من التوجهات الحمائية في البلدان ذات العجز. التعلم من التاريخ ويسوق لنا التاريخ عديدا من الأمثلة على الاضطرابات المرتبطة بالاختلالات الخارجية الكبيرة. ويقال، إن من أشهرها فترة الكساد الكبير في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، التي سبقها إخفاق في التعاون الدولي لمعالجة الاختلالات المزمنة بين البلدان ذات الفوائض الكبيرة "ولا سيما أمريكا وفرنسا" والعجز الكبير "ومنها ألمانيا وبريطانيا". وكان انهيار النظام الاقتصادي العالمي الذي أعقب ذلك هو الدافع لإنشاء صندوق النقد الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وتكليفه بمهمة تعزيز التعاون النقدي الدولي ومساعدة البلدان في بناء اقتصادات قوية والحفاظ عليها. وفي تاريخ أقرب، سبقت الأزمة المالية العالمية اختلالات قياسية تزامنت مع تراكم مواطن الانكشاف للمخاطر دون أن يلقى ذلك اهتماما يذكر. ولم تنته الاختلالات إلا في سياق ركود لا يتكرر في جيل واحد أسفر عن عسر اقتصادي شمل أنحاء العالم المختلفة. تقييم الاختلالات الخارجية: فما الذي يستطيع الصندوق القيام به، في ضوء المهمة المنوطة به، للحد من مخاطر الاختلالات المربكة في الحسابات الجارية؟ بعد استيعاب درس الأزمة المالية العالمية، بدأنا منذ عام 2012 إجراء تقييمات سنوية منتظمة لأكبر 28 اقتصادا في العالم إضافة إلى منطقة اليورو. وتسهم هذه الاقتصادات معا بأكثر من 85 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. والهدف هو تحديد التطورات الخطرة مبكرا من أجل تقديم المشورة بشأن السياسات للبلدان المعنية حول كيفية معالجة الاختلالات التي قد تكون مثيرة للارتباك. وتظهر النتائج في كل من تقارير مشاورات المادة الرابعة السنوية لكل بلد عضو وتقرير القطاع الخارجي الشامل الذي يصدر مرة واحدة سنويا. وتتسم هذه العملية بطابع متعدد الأطراف، حيث تركز على معاملات البلد المعني مع بقية بلدان العالم، وليس على الأرصدة الثنائية للبلدان. ويشكل هذا التركيز أهمية بالغة في الكشف عن العوامل الاقتصادية الكلية الدافعة للاختلالات العالمية. "يتبع".author: موريس أوبستفلد
مشاركة :