كان عنوان مقالي السابق «كيف اختفت الداعشية الشقراء؟» وعرضنا فيه قصة السويسرية مريم ابتداءً من اعتناقها الإسلام مروراً بزواجها من مسلم مسرف على نفسه، ثم انخراطها في العمل الاجتماعي والديني الرشيد وصولاً إلى اختفائها المفاجئ للجميع بمن في ذلك زوجها ثم رسائلها المريبة من مدينة الرقة السورية مع الدواعش.ومقالنا اليوم ينتقل من (كيف) إلى (لماذا) لمعرفة الدوافع والأسباب التي تقذف بهؤلاء إلى جحيم الإرهاب.أعتقد أن هناك العديد من العوامل التي يجب مراعاتها لتحليل هذه الظاهرة، سأذكر بعضها آملاً من الجميع أن يشاركني الرأي لتأطير هذه المسألة سعياً لإيجاد العلاج الناجع لها:- في ظني أن الإسلاموفوبيا المتفاقمة في أوروبا، والتمييز الممارس ضد المسلمين والشكوك العامة التي تثار في المجتمع الذي يعيشون فيه ونظرة من حولهم تجاههم أحد أهم الأسباب الدافعة للتطرف.ولم يعد من الممكن إنكار هذا التوجه لدى الشعب الأوروبي الذي أصبح أكثر تعصباً وعدوانية وغير متسامح تجاه المسلمين، حيث تسمح وسائل الإعلام بعرض نسبة كبيرة من المقالات التي تنشر يوميا لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.وفي الوقت ذاته لا تتخذ مواقف معقولة ومنطقية فيما يتعلق بالكوارث الإنسانية والمدنية، فالانتقادات لمجازر نظام الأسد قليلة، لكن هجوما في أوروبا يقوده إرهابي مسلم يتصدر العناوين لأسابيع عدة، والشباب المسلم يتابع ويتعايش باستياء كبير مع ما يحصل.- تقييد الحقوق والقمع، حيث يعاني المسلمون هناك من تقييد حقوقي مفروض ضد المسلمين في الوقت الراهن، وإغلاق الحسابات المصرفية لمنظمات إسلامية معتدلة، وتطبيق قوانين خاصة للمسلمين فيما يتعلق بحرية الاختيار وحرية الأديان، واعتقالات من دون مبرر قانوني بل بحجج الوقاية أو الاحتياط، كما في قوانين حظر الحجاب في الأماكن العامة والمدارس، ومنع تنظيم المؤتمرات، وحجز جوازات السفر وسلبهم حرية التنقل.يتزامن ذلك مع زعم أوروبا الدفاع عن حقوق الإنسان وعن الحريات. تناقضات لم يعد المسلمون يطيقونها، وخصوصاً الشباب الذين يطمحون لحرية الاختيار.- حجز الحريات والاعتقالات من دون مذكرة قضائية، ومن دون أن تأخذ العدالة مجراها ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي يسمح لأيديولوجية مثل تلك التي تروج لها داعش بالانتشار.الشباب الأوروبي المسلم يتابع أحداث الحرب في فلسطين والعراق وسورية وأفغانستان وغيرها ويتعايشون وجدانياً مع معاناة إخوانهم وأخواتهم التي صنعها غزو الولايات المتحدة لبلاد المسلمين بحجج واهية.إنهم يتابعون الظلم الذي فرضته الدول الغربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويرون كيف تنتهك الحقوق الأساسية وكيف يعامل الناس بلا آدمية ويسمعون أصوات الكراهية المرتفعة ضد الإسلام المروج لها في المجتمعات الغربية، وكيف أن هذه الأخيرة تأبى الاعتراف بالأخطاء والجرائم السياسية البشعة التي ارتكبوها ضد الإنسان المسلم في العراق وأفغانستان وسورية.الشباب يشعرون بالغربة، لأنه نادراً ما يجرؤ ممثل لهم على أن يقول الحقيقة وينتقد ما يحصل... الشباب يلاحظون أن الدول العربية تطبق بالحرف تعليمات حلفائها الأوروبيين، فيشعرون بأنهم بلا سند ولا معين، وأن الجهة الوحيدة التي تتبنى خطابا معاديا للغرب هي داعش على الرغم من وحشية هذا التنظيم وإجرامه وبعده عن تعاليم الإسلام الحقة.- التدخل العسكري الغربي في الشرق الأوسط، هذا التدخل السافر وغير المبرر مع وجود السجون الظالمة هو ما هيّأ فكرة تقبل دولة الخرافة داعش، بل وصنع لها البيئة الملائمة لتطوير مثل هذه الأيديولوجية المجرمة التي يبرأ منها الإسلام الحق ويجرمها.- ظلم بعض الأنظمة العربية الموجه ضد شعوبها والإسلام، فغالبية الأنظمة العربية والإسلامية قد فقدت مصداقيتها بين الشباب المسلم في أوروبا، ويرون بأنها دمى في يد الغرب وأنها امتداد لمرحلة ما بعد الاستعمار المستمرة لخدمة مصالح الوجبات الغذائية السياسية والاقتصادية والأيديولوجية الأوروبية والأميركية. ولكي تبقى المنطقة بلا حروب فمن الضروري أن تدوم سيطرة الأنظمة الشمولية وألا يكون للشعب حرية الاختيار، خوفاً من فقدان النفوذ ومن الثورة ضد الاستعمار الجديد، وهو ما تسبب بما يسمى «الربيع العربي» ونتج عنها بروز دولة الخرافة الداعشية.وفي نظر الكثير من الشباب أن هذه الأنظمة جزء من المشكلة ويجب أن تتغير. وبما أنه ومن جديد ليس هناك من يعبر أو يسيطر على هذا الغضب، اعتبر البعض تنظيم داعش الإرهابي بمثابة «الجواب الكافي» بالنسبة لأسئلة البعض.- صمت العلماء، إذ إن غالبية الشباب الأوروبي المسلم الذي عاش حياة الانفتاح في الحوار والعيش بكرامة الإنسان الحر في بلده يعتقد أنه لا يصح إدانة داعش والصمت عن جرائم الآخرين.لهذا عندما تخلى العلماء عن الايضاح تركوا المجال للجهلاء، وصمت العلماء عن الظلم ولم يتخذوا مواقف لدعم حقوق الشعب،لأنه سيؤدي بهم لفقدان نفوذهم ومركزهم كمرجعية وقدوة. بالنسبة لكثير من المسلمين أصبح العلماء فاسدين وأصبحوا أسلحة للأنظمة المستبدة التي تحاول بكل قوتها استعادة السلطة الإقطاعية.مع تأثير الحداثة والفردية في أوروبا يفقد بعض العلماء بأي حال من الأحوال مركزهم ويتزايد عدد الناس الذين يتبعون رأيهم الخاص، فضلا عن الشباب الذين يتبعون داعش.- المشاكل الشخصية والجهل، فمما لا شك فيه أن العديد من الشباب الأوروبي الذين ذهبوا إلى سورية كانوا يعانون من مشاكل شخصية وفشل في حياتهم الخاصة، أو حتى من مشاكل نفسية، وفي أغلب الأحيان ليسوا متعلمين، ولديهم معرفة ضئيلة عن الإسلام ونادراً ما يتحدثون اللغة العربية.لذلك فبالنسبة للكثيرين كان «داعش» ربما فرصة للهرب من واقع صعب إلى خيال سهل المنال.ولكن يجب أخذ جميع العوامل الأخرى كذلك بعين الاعتبار، لأن هناك نسبة كبيرة منهم لا يبدو على الإطلاق أنهم عانوا من مشاكل.-إجابة بسيطة وواضحة، التغطية الإعلامية لداعش: ردود داعش على مخالفيهم كانت بسيطة وواضحة، ويظهرون مجتمعهم نظيفاً من دون أي تهاون، وقوياً خالياً من الفساد، هذا ما يظهره نظام الإعلام الداعشي العجيب الذي يجذب انتباه الشباب على وجه الخصوص.وقد فوّت معارضو داعش الفرصة لاتخاذ خطوات إعلامية مناسبة، فكانت ردودهم بطيئة ولا ترقى للمنافسة على نفس المستويات التقنية التي من المحال أن يوفرها تنظيم محاصر ما لم يكن هناك داعم خفي له من أجهزة استخباراتية وميزانية مرصودة له، استطاع التنظيم عبر هذا الدعم من تصدير سياسة الوهم التي اصطادت الأغرار وحولتهم إلى وحوش كاسرة تسعى لقتل الحياة وتشويه مفهوم التدين.ومع أملي أن أجد من يزيد على هذه النقاط المسببة للتطرف الأعمى لعلنا نساهم في معالجة هذا الداء، يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا وواقعيين، فما دام ظلم الأنظمة الشمولية وتعذيبها لأبناء شعبها في السجون مستمراً، والاضطهاد السياسي قائماً، فإن التطرف يمتلك فرصة كبيرة لكسب المزيد والمزيد من المؤيدين، فالظلم هو محرك التطرف الأقوى وهو الدافع الأساس لردود الفعل المتطرفة.الوضع الحالي يقودنا للانصهار في العدمية، التي تدفع شبابنا للعيش ضمن دائرة الخواء التي تسبب الهلاك في نهاية المطاف. فلنحذر قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي نندم فيه على خسارة لا يصعب جدا تعويضها.mh_awadi
مشاركة :