قصة «الأب الروحي للضباط الأحرار»: أصبح أكبر ضابط عربي في الجيش التركي (4)

  • 7/8/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

5 سنوات فاصلة فى تاريخ «عزيز المصرى» ما بين ١٩٠٩ حيث تنحية السلطان عبدالحميد وحتى 1914، حيث الحكم بإعدامه فى قلب عاصمة الخلافة بتهم عديدة أهمها «الخيانة والسرقة».. هى سنوات فاصلة فى العالم العربى كله لأنها كشفت الوجه الحقيقى لتركيا والقادمين الجدد فى عاصمتها، بينما لم يلجأ السلطان عبدالحميد، رغم سلوكه الديكتاتورى، إلى أساليب عنصرية أو عرقية فى أرجاء دولته، حيث كان يهدف للسيطرة على جميع العناصر العثمانية والإسلامية دون أن يلجأ إلى «التتريك»، كما فعل الاتحاديون، وهذه كانت مفاجأة سريعة اكتشفها الثوريون العرب وعلى رأسهم «عزيز المصرى». بعد استيلاء الاتحاديين الأتراك على أمور البلاد دبّ الخلاف مع هؤلاء الضباط العرب، الذين كانوا يأملون الحصول على نوع من الحكم الذاتى لبلدانهم، فلما لم يتحقق ذلك بدأت الدعوة إلى العروبة يشتد عودها، وكان لـ«عزيز» دور كبير فى هذه الدعوة، فاختاره الضباط العرب لقيادتهم. انفصلت العناصر العربية عن جمعية «الاتحاد والترقى» وأسسوا أكثر من جمعية أشهرها «العهد» التى أقامها عزيز المصرى بنفسه، وكانت «سرية ثورية» ضمت فقط غالبية الضباط العرب فى الجيش التركى، كان هدفها الوقوف ضد تعنت وقسوة نظام الحكم الذى كان يدين بالولاء لجمعية الاتحاد والترقى، فى الوقت الذى كان فيه السلطان محمد الخامس لا يملك أى شىء سوى مجرد اللقب. والمؤكد أن الحكام الفعليين عاملوا الضباط العرب بشدة، وتخلوا عن المبادئ التحررية التى جمعتهم فى بداية النشأة والتكوين. يقول محمد عبدالحميد فى كتابه «أبوالثائرين» إن سياسة عزيز المصرى، وما كان يؤمن به من أفكار ثورية داخل الجمعيات التى كان عضواً بها أو التى قام برئاستها- إنما كانت اللبنة الأولى للقومية العربية التى طال انتظارها، والتى تمثلت فى الجيش العربى الذى كان من المفروض أن يظهر فى سماء الأمة العربية ليحقق الوحدة المنشودة لجميع العرب، ولكن سياسة كل من بريطانيا وفرنسا الاستعمارية، ورغبة كل منهما فى توزيع البلاد العربية تحت نفوذهما، وظهور وعد بلفور.. كل ذلك حوّل الأمانى العربية إلى سراب عندما تم غرس إسرائيل داخل أرض فلسطين. وبينما كانت أوروبا تعيد تشكيل تحالفاتها وترسم معالم العالم العربى وتوزيعه، كقطع دومينو فيما بينها، كانت سياسة التتريك العنصرية ضد العرب مستمرة. يقول عبدالكريم جرادات فى رسالته للماجستير عن «عزيز المصرى والحركة العربية» إن رجال «الاتحاد والترقى» كانوا يسعون إلى إحياء أمجاد الأتراك الأوائل عن طريق إحياء التراث الحضارى القديم.. وقد بدأوا يتركون بصمات واضحة على سياسة الاتحاديين. لقد استأثر الاتحاديون بالسلطات والنفوذ، لأنهم هم الذين أعلنوا الدستور، وعزّ عليهم أن يجودوا على العرب وغيرهم بشىء من الحرية والمساواة والعدالة التى كانوا يطالبون بها. وأخذ الصراع بين العرب والترك منذ ١٩٠٩ طابعاً عنيفاً ومظهراً جريئاً، وبدأت الحملة التركية الجائرة على العرب والعروبة فى كثير من الميادين، كالجوامع والصحف والأندية. وفى ظل هذه الظروف كان نمو الحركة العربية على أشده، وتمثل فيما كان يكتب وينشر فى بعض الصحف، وفى إنشاء وتكوين الجمعيات العربية، ولم تأت هذه الجمعيات بجديد فى الفكر، ولكنها كانت أداة ووسيلة للتعبير عن طموح النخبة العربية، وكان معظمها ذا طبيعة سرية فى معظم أنشطتها بعد أن أيقنت أنها تحت رقابة الاتحاديين. ومن بين هذه التنظيمات العربية حظيت أربعة منها بالأهمية فى تطور الوعى القومى العربى وتنظيم العلاقة بين العرب والأتراك على أساس ومفاهيم جديدة وهى «المنتدى العربى» و«الجمعية القحطانية» و«الجمعية العربية الفتاة» و«جمعية العهد». ونؤكد، هنا، أهمية هذه الجمعيات وخطورتها فى الحياة السياسية العامة، فالانتماء إلى واحدة منها أوصل عزيز المصرى إلى حكم بالإعدام، رغم بطولات الرجل فى اليمن وليبيا قبل ذلك بشهور معدودة. كانت هذه الجمعيات فى بدايتها ذات طبيعة ثقافية تتحدث عن العرب والإسلام والحضارة وإعادة إحياء الحكم العربى، لكنها أزعجت الأتراك. ويرصد «جرادات» فى «رسالته» أن الحكومة انزعجت، على سبيل المثال، من قصيدة بعنوان «الليل والنهار»، ويورد «جرادات» جزءاً من أبيات هذه القصيدة، ويؤكد أنها لشاعر يدعى رفيق رزق سلوم وجاء فيها: قالوا بماذا يفخر العربى/ قلت بما يفاخر أو لم يروا ما خلف الأجداد/ من بيض المآثر فتحوا البلاد بسيفهم/ وبعلمهم كانوا المنائر وبعدلهم شهد الورى/ فالفضل مثل الشمس ظاهر كتب الجيش الرابع أن الهدف من القصيدة كان تحريض العرب على الثورة ضد الترك، وامتد أقدم هذه المنتديات وهو «المنتدى الأدبى» لمختلف الدول العربية، وذلك بفضل فروعه واتصاله بالجمعيات العربية الإصلاحية فى بيروت والبصرة ومصر، كما كان لأعضائه نشاط فى التمهيد ثم المشاركة فى عقد المؤتمر العربى الأول بباريس عام ١٩١٣ وبأقطاب المعارضة العربية فى مجلس المبعوثان العثمانى، ولكن تم إغلاقه فى عام ١٩١٥ بسبب معاداة الحكومة القائمة للحركة العربية والقائمين عليها. أما أقوى هذه الجمعيات فكانت «الجمعية القحطانية» التى جاءت تسميتها بهذا الاسم نسبة لقحطان، الجد الأول للعرب، ويؤكد بعض المؤرخين أنها جاءت رداً على المخلصين من جمعية الاتحاد والترقى لتوران، (طوران) جد الأتراك، والتى تعنى أيضا الأرض الأسطورية «الأصلية» التى أتى منها الأتراك. أسس الجمعية فى ١٩٠٩ مجموعة من الضباط العرب إضافة إلى المدنيين، كان من بين المؤسسين ثلاثة ضباط فى بغداد هم: جودت الأيوب وجعفر العسكرى ونورى السعيد. وكانت الجمعية تسعى إلى إنهاض العرب وجمع كلمتهم والمطالبة بحقوقهم فى المشاركة بحكم الدولة، وتعتبر مظهراً من مظاهر التذمر العربى تجاه الحكومة الاتحادية. وقد سعت منذ البداية إلى تحويل الدولة العثمانية إلى مملكة مزدوجة، وذلك بأن تكون البلاد العربية مملكة واحدة لها برلمانها وحكومتها الخاصة بها، وتكون اللغة العربية لغة التدريس بها، على أن تصبح هذه الدولة جزءاً من إمبراطورية تركية عربية تشبه فى تكوينها اتحاد المجر مع النمسا. وقد كان لعزيز المصرى دور بارز فى تأسيس هذه الجمعية، حيث كان آنذاك برتبة بكباشى «مقدم» أركان حرب، فقد سعى إلى ضم خيرة رجال العرب بأى وسيلة كانت ومن مختلف أوطانهم. كان الهدف الأساسى- كما ذكر عزيز المصرى- نشر الفكرة العربية والعمل على ترقى حالهم (أى العرب) وإصلاحه. كان «عزيز» فى هذه المرحلة متخصصاً فى أمور تنظيم الجمعيات السرية وتدبير شؤونها وأعمالها، وكان حينئذ أكبر ضابط عربى فى الجيش العثمانى، وفكر بمستقبل قومه وأمنه، وهو أول من عمل من الضباط على إنقاذ العنصر العربى من التدهور، الذى سيصيب الدولة العثمانية، وقد صدق الاتحاديون بوصفهم عزيز «بأنه بيت الفكرة العربية فى الجيش»، ويؤكد «جرادات» فى رسالته أنه رغم قوة هذه الجمعية، فإنه تم حلها، ربما لأسباب أمنية على الرغم من الدقة والحذر الذى اتبعته فى اختيار أعضائها، فقد انتشرت بينهم فكرة وجود جاسوس فى صفوفها، واضطر كثير من الأعضاء إلى ترك الأستانة سنة ١٩١٤، إلا أن أبرز الجمعيات العربية السرية كانت «الجمعية العربية الفتاة» وذلك بسبب الدور الكبير الذى لعبه أعضاؤها فى تنمية الوعى العربى بشكل عام، وفى التمهيد للثورة العربية الكبرى بشكل خاص، ورغم قسوة الاتحاديين ضدها ومواجهة عدد من أعضائها لأحكام الإعدام، فإنهم لم يبوحوا بسر هذه الجمعية. وقد استمرت فى نشاطها إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان لأعضائها دور بارز فى الثورة العربية الكبرى ١٩١٦، ولكن قبل ذلك سنصل مع عزيز المصرى إلى اليمن ثم ليبيا.

مشاركة :