انتهت الحرب فى ليبيا باحتلال إيطالى غاشم، وانسحاب عثمانى مخز. وانتهت المواجهة أيضًا بفتنة كبرى كان عزيز المصرى طرفًا فيها، فمع ضغوط الأستانة لتوقيع الاتفاق الذى يعترف باحتلال إيطاليا لطرابلس الغرب، استجاب «عزيز» وانسحب بقواته إلى قرب السلوم لكن الشيخ السنوسى اعتبر ذلك خيانة من العثمانيين ومن عزيز المصرى، رغم أنه كان آخر القادة المنفذين للانسحاب. يرجع محمد فريد فى مذكراته أمر انسحاب عزيز المصرى فى ذلك الوقت إلى تدخل خديو مصر عباس حلمى (الثانى) وبثه الفرقة بين عزيز المصرى والشيخ السنوسى، وأن الأمر انتهى بإحداث فتنة بين الفريقين وسقوط قتلى من الرجال والضباط. عاد «المصرى» للأستانة ليتعايش مجدداً مع سياسة الاتحاديين بإفناء الجنس العربى، كما يذكر محمد عبدالرحمن برج فى كتابه عن عزيز المصرى فإن العرب كانوا يشكلون نصف سكان الدولة أو أقل من ذلك بقليل ولم يكن لهم سوى 50 نائبًا من مجموع 270 نائبًا، ولم يكن لهم فى بعض الأحيان سوى وزير واحد وهو وزير الأوقاف. كذلك لم يكن لهم سوى أربعة أو خمسة أعضاء فى مجلس الأعيان البالغ عدد أعضائه 45 أو 50 عضواً. عندما عاد عزيز المصرى إلى الأستانة كان الجو السياسى على أشده، فقد تعاظمت الحركة الطورانية ضد القوميات الأخرى لاسيما القومية العربية وباعتبارها القومية الأكبر من بين جميع القوميات التى تشكل فى مجموعها الإمبراطورية العثمانية. ومع ازدياد هذه الحركة ومع ما رافقها من استعمال الشدة من قبل الأتراك ضد العرب، قرر أن ينشئ تنظيمًا عسكريًا سريًا سماه «جمعية العهد» يلتحق به الضباط فقط. وعقد الاجتماع الأول فى 23 سبتمبر 1913 فى بيت «المصرى» وكان مجموع الحضور أحد عشر شخصا، وبدأوا أعمالهم بوضع نظام أساسى للجمعية التى قرروا تأسيسها واتفقوا أن يكون الاجتماع سريًا وأن هذه الجمعية ستعمل على بلورة وتلبية تطلعات العرب وخروجهم من سيطرة الإمبراطورية العثمانية، فكانت جمعية العهد من أكثر الوسائل فاعلية فى نشر الأفكار العربية. يكتب عبدالكريم جرادات فى رسالته للماجستير عن «عزيز المصرى والحركة العربية» أن معظم أعضاء هذه الجمعية أصبحوا من المعدودين من كبار رجالات الحكم والسياسة فى الوطن العربى، وإزاء هذه التطورات والأحداث قرر الاتحاديون القيام بمجموعة أعمال كان من شأنها تفتيت القوة العربية داخل الأستانة، وذلك بإبعاد معظم الضباط العرب إلى مختلف المناطق البعيدة عن العاصمة مع تولية الضباط الأتراك القيادات العليا فى مناصب الجيش فى البلاد العربية لم تكن حركة «عزيز» وجماعته بمنأى عن مسامع الحكومة التى أحاطته بالجواسيس، مع تشديد المراقبة على منزله الذى كان يستضيف الاجتماعات. فأرادت الحكومة أن تتخلص منه ومن نشاطاته فعينته رئيسًا لأركان حرب جيش أنقرة. كان عزيز- قبل ذلك- أحد القادة المشهورين فى جمعية الاتحاد والترقى، ولكنه ابتعد عنها عندما رأى الفساد يتسرب داخلها، والمثل العليا التى قامت لأجلها هذه الجمعية قد تم التخلى عنها على يد الأتراك، وعليه فقد قرر «المصرى» أن يفضح خططهم الشريرة التى حاكوها تجاه العرب وشجعه على هذا القرار معرفته بعقلية وخطط بعض الاتحاديين. وتبع عزيز المصرى عدد كبير من الضباط العرب الذين كانوا يخدمون فى الجيش التركى. كان ناظر الحربية آنذاك عدوه التقليدى أنور باشا، لذا لم يكن «المصرى» مرتاحًا لهذه «الترقية» فرفضها، وقدم استقالته من الجيش العثمانى حيث قام بإرسال برقية إلى نظارة الحربية مقدمًا بها استقالته وشارحًا بها ظروف هذه الاستقالة وينقل محمد صبيح فى كتابه «بطل لا ننساه» نص الاستقالة إلى وزارة الحربية الجليلة: «لقد تركت الجيش العثمانى، ابتداءً من هذا التاريخ، ولكن حياتى العسكرية الماضية لا تزال تربطنى به برباط متين. فإذا نشبت حرب أو احتاج الوطن إلى أبنائه، فعلى وزارة الحربية الجليلة أن تطلبنى من الكومسارية العثمانية بمصر محل إقامتى، على أن تعين لى القوة التى أتولى قيادتها». وما إن تلقى أنور باشا هذه الرسالة، حتى أدرك أن غريمه العنيد يوشك أن يفر من القفص، ويذهب إلى القاهرة، حيث يتسع له مجال العمل دون قيد أو رقابة أو جواسيس أتراك. وهذا لا يمنع أن يكون فى القاهرة جواسيس آخرون يعملون لحساب الإنجليز. ورأى وزير الحربية أن هذه الاستقالة إنما هى مبرر يريد به «المصرى» الخلاص من قيود وظيفته لكى ينضم إلى صفوف المطالبين بالإصلاح اللامركزى، فما كاد يمضى على ذلك خمسة عشر يومًا حتى أمر عدوه الشخصى أنور باشا باعتقاله، وكان ذلك فى التاسع من فبراير 1914. بقى «عزيز» رهن الاعتقال لمدة شهرين، وأثناء ذلك ظهرت مجموعة من القوى على مسرح الأحداث خاصة فيما يتعلق بالتهم التى وجهت له أو بالجهات المختلفة العربية والأجنبية التى حاولت التوسط أو التدخل فى هذه المسألة بالقدر الذى تسمح لها مكانتها آنذاك. وعن كيفية اعتقاله فإن المصادر تؤكد أنه تم بشكل مهين وتتلخص القصة كالآتى: بينما كان «عزيز» يهم بمغادرة فندق طوفتليان وبعد انتهائه من طعام الغذاء، أحاط به ثلاثة من رجال الشرطة السرية والذين قاموا بإخباره بأن مفتشى شرطة الأستانة يريد مقابلته، وبعد أن أقتيد إلى مركز الشرطة تم استقباله بعد انتظار دام خمس ساعات، ثم أخبروه بصدور مذكرة اعتقال بحقه، وتمت مصادرة مسدسه الشخصى ووضع فى سجن الوزارة بانتظار المحاكمة على يد محكمة عسكرية. يشرح عبدالكريم جرادات فى رسالته العلمية أن وزير الحربية أنور بك كان قد روج الكثير من الشائعات ضد «عزيز» فى الأستانة بأنه اختلس أموال الدولة، مما اضطر «عزيز» فى ذلك الوقت إلى الطلب من قياداته أن يقوموا باستجوابه لبيان موقفه والتخلص من الشائعات التى مهد لها أنور بك. وعليه فقد أزيلت السمعة السيئة عن اسمه. لقد مهد أنور باشا وأعوانه الطريق لاعتقال عزيز المصرى سواء بترويج الشائعات، وكذلك فى الإجراءات العسكرية التعسفية التى اتخذوها فى محاولة فهم لمقاومة الحركة العربية بمختلف الوسائل والأساليب. ويشرح عزيز المصرى ظروف اعتقاله فيقول إن الشرطة جردوه من مسدسه، ثم وضعوه فى غرفة رئيس أركان الفرقة الأولى، ومنعوه عن مقابلة زائريه وطال اعتقاله 70 يومًا.. وكان فى الليل يسمع أصوات التعذيب والاستغاثة من الغرف المجاورة لغرفته.. كان الأتراك يقتلون المتهمين ويقطعونهم إربًا إربًا ويرمون بهم فى مصارف مياه المدينة. أثار اعتقال عزيز المصرى ردود فعل غاضبة، واستياءً شديداً فى مختلف الأوساط السياسية المحلية والأجنبية وخاصة بريطانيا وفرنسا. فى الأستانة وقع الخبر كالصاعقة على الضباط العرب، وعقدوا اجتماعًا سريًا لمناقشة الخطوات التى ينبغى اتخاذها لإنقاذ حياة عزيز المصرى، وتمشيًا مع اقتراح ثابت عبدالنور، تم تجهيز سيارة خاصة لمحاولة تهريبه من السجن، لكن المجتمعين لم يوافقوا على الاقتراح نظراً لعدم إمكانية نجاحه. انتشر الخبر، واحتفت به الصحافة العربية والمصرية بوجه خاص. ومنذ وفاة مصطفى كامل وحادث دنشواى، لم تتوحد الأحزاب التى كانت وليدة حينئذ ولا الصحف ومعهم شيوخ المساجد مثلما توحدت فى قضية عزيز المصرى.
مشاركة :