فى عام ١٩٠٨، أى قبل خلع السلطان عبدالحميد الثانى بعام واحد، تم افتتاح خط سكة حديد الحجاز والذى ظل يعمل حتى تم تخريبه تماماً خلال الحرب العالمية الأولى، وأثناء الثورة العربية الكبرى، بلغت تكلفة الخط «أربعة ملايين ليرة عثمانية» بدأت بحملة فى أرجاء البلاد لجمع الأموال والمواد الخام والعمالة، وافتتحها السلطان بنفسه فى عام ١٩٠٠، بالتبرع بـ٥٠ ألف ليرة عثمانية من أمواله الخاصة. كان الهدف المعلن للمشروع منذ انطلاقه، كما تم الترويج لذلك فى أنحاء العالم الإسلامى، هو نقل حجاج الدولة العثمانية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. جاءت الفكرة من الأساس من الإمبراطور الألمانى «ولهلم» خلال زيارته الأسطورية للأستانة، لكن المشروع تعثر لبعض الوقت، كانت هناك مخاوف لدى دول أوروبا، وخاصة روسيا وإنجلترا وفرنسا من المشروع ومن زيادة النفوذ الألمانى فى المنطقة، وصولاً لتحالف ألمانيا الفتية- فى ذلك الوقت- مع رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية)، لكن الهدف الحقيقى لخط سكة حديد الحجاز- كما يقول المؤرخون- كان ربط أرجاء الدولة العثمانية، وسرعة نقل الجنود من الشمال للجنوب، كانت العواصم العربية متخمة بأسباب الثورة والنفور من العثمانيين، لكن كان الوضع فى الجنوب «اليمن» ذا طبيعة مختلفة. كان هناك حيث الموقع الاستراتيجى الذى تتصارع فيه كل القوى الدولية، إمام عنيد وهو الإمام يحيى، رفض الانصياع للدولة العثمانية، بل إنه نجح فى أسر عدد ضخم من قادتهم وجنودهم. تم إرسال وفد رفيع كان من بين أعضائه البكباشى عزيز على المصرى وعزت باشا الأرناؤوطى، وكان رئيساً عاماً لأركان الجيش للتفاوض مع «الإمام». كان «عزيز» وهو يقوم بهذ الدور، كما يكتب د.محمد عبدالرحمن برج فى كتابه عنه، يريد أن يجنب الدولة العثمانية الكثير من سفك الدماء بسبب اليمن، كان مخلصاً للدولة العثمانية، وكان الإمام مستبشرا بإعلان الدستور وقيام العهد الجديد وأخذ يأمل الكثير من حركة الإصلاح. وأطلق الأسرى من الضباط والجنود العثمانيين دلالة على حسن نيته، كاد الصلح أن يتم بين الدولة العثمانية واليمن لولا ثورة إبريل المضادة فى إسطنبول، ولكن بعد القضاء على هذه الحركة وعزل السلطان عبدالحميد الثانى، تعثر إقرار الاتفاق، وساءت العلاقة بين الإمام يحيى والدولة العثمانية مجددا، فى ١٩١٠ حيث زحف «الإمام» إلى صنعاء فقررت حكومة الأستانة إرسال حملة إلى اليمن بقيادة المشير عزت باشا وزودته بسلطات واسعة لحل مسألة اليمن، وبعد أن نزلت الحملة فى «الحديدة» فى فبراير ١٩١١، أسرعت فى الزحف نحو صنعاء فدخلتها فى إبريل من العام نفسه. يؤكد كثير من الكتب والدوريات فضل القائمقام «عزيز المصرى» فى عودة النفوذ العثمانى لليمن فى هذا الوقت وسأعود إلى شىء منها، لكن أنقل مما قاله هو لـ«محمد عبدالحميد» فى كتابه أبوالثائرين عن هذه المعركة.. كانت طبيعة أرض اليمن فى صالح أهلها سواء فى السلم أو الحرب.. كان اليمن قادراً على فهم وإدراك ومعرفة البيئة التى يعيش فيها، لذلك أحسن استخدام ارتفاعات الجبال فى سرعة تسلقها والسيطرة على قممها العالية، الأمر الذى جعل أى جيش صاعد على مرمى بنادق أهل اليمن، أيضاً ساعدتهم البيئة على استخدام حرب العصابات التى تعتمد على الهجوم السريع وحسن الانتشار، وأيضا على التقهقر والهروب بشكل مفاجئ. لقد كان سكان اليمن- إضافة إلى ذلك- وبإيعاز من «الإمام» يقومون بثورة كل عامين أو ثلاثة- موعد جمع الضرائب- حيث يرفضون دفع الضرائب للدولة العثمانية ويدفعون فقط ما يخص الإمام الذى يحكمهم، وكانت الدولة العثمانية أمام ذلك الرفض ترسل قوة عسكرية قوامها لواءان، وأحيانا ثلاثة ألوية تشرف على جمع الضرائب بقوة السلاح. وكانت القوة العسكرية- عادة- تفقد معظم أفرادها فى حرب العصابات التى كان يجيدها أهل اليمن. يقول عزيز المصرى: لقد عاينت الطبيعة الجبلية فوجدت أن إحراز نصر دائم أمر مستحيل، لذلك طلبت تحرير ثلاث فصائل عثمانية من الأحمال التقليدية التى كان يحملها الجندى على كتفيه تماماً، كما فعلت فى منطقة الجبل الأسود والبوسنة والهرسك، وعندما كنت أحارب الثوار، كانت خطتى ممارسة الحرب بأسلوب أهل اليمن. ويضيف: فى إحدى الأمسيات هدانى تفكيرى لحل بجعل قوتنا العسكرية تحصل على المال المطلوب دون إطلاق طلقة واحدة أو إزهاق روح جندى عثمانى أو مواطن يمنى. كان قرارى كتابة خطاب إلى الإمام يحيى بن حميد الدين أدعوه فيه إلى الحل السلمى بعد أن كبدت قواته خسائر موجعة عن طريق حرب العصابات التى شلت أفكاره وأدهشتهم إلى حد بعيد، ولقد استخدمت فى ذلك الخطاب الحكمة والعلوم الإنسانية، والقيم الدينية الإسلامية المشتركة، وطالبت فى نهايته بضرورة الجلوس معاً والبحث عن وسيلة لحقن دماء المسلمين من الجانبين. يقول عزيز المصرى: «وافقت قيادات الدولة العثمانية على صيغة الخطاب، وكذلك اللقاء» وذهبت للقاء الإمام يحيى الذى قام من مكانه وأحسن استقبالى، واختار لى مكاناً إلى جواره.. وعلى مدى يومين كاملين كنت فيها ضيفاً عليه، تم الاتفاق المشترك وعلى مسودة معاهدة جديدة تضمن حقوق الدولة العثمانية الحامية والعسكرية والسيادية على اليمن، مع راتب شهرى للإمام وتعيين اليمنيين فى وظائف القضاء والدولة. وتم توقيع المعاهدة واستتب الأمر تماما وابتهج رجال «الاتحاد والترقى» فى اسطنبول بهذه المعاهدة وباركوها وأثنوا عليها. وتقدر بعض المصادر عدد الجنود العثمانيين الذين قتلوا فى المواجهات مع «الإمام» قبل توقيع «عزيز المصرى» لهذه الاتفاقية بـ٢٥ ألف جندى. وقد اشتهر دور «المصرى» فى هذه الحرب، وحتى القادة الأتراك لم يبخسوه حقه فى هذا الوقت، وأجرت جريدة «المفيد» البيروتية حوارا «مع الأميرالاى إحسان بك» رئيس أركان الحرب لجيش اليمن تم نشره فى فبراير ١٩١٢ قال فيه إن عزيز بك شاب غيور يعز عليه أن يستمر القتل بين الجنود العثمانيين وبين عرب البادية، وقد أتى هذا القطر والتحق بحملة اليمن وفى النية أن يوفق بين عزت باشا والإمام يحيى حقناً للدماء، وقد نجح مسعاه لدى قائد الحملة، فعزت باشا لم يكن ممن يحبون سفك الدماء دون طائل، وهذه العاطفة التى وجدها عزيز بك فى قلب عزت باشا سهلت عليه سبيل الاتفاق مع الإمام، وعزيز بك هو بطل هذا الاتفاق، وأؤكد لكم أن هذ البطل هو من أصدق الرجال الذين خدموا الدولة والأمة معاً.. وقد تمكن بطلاقة لسانه من إقناع الإمام بأن القتال إذا استمر بينه وبين الدولة فإن الأجانب الذين يتربصون بنا الدوائر سوف يستولون على هذه البلاد، ومع هذه الفكرة بنى أساس الاتفاق بين الإمام يحيى وعزت باشا. هذا النجاح فى اليمن استدعى تدخل «عزيز» ومعه أنور جمال ومصطفى كمال أتاتورك إلى ليبيا. هناك كان فى انتظاره أرض مختلفة ومعركة أصعب.. حيث احتلال إيطالى غاشم وحركة وطنية وليدة وضعيفة.
مشاركة :