الشاعر السعودي سامي الطلاق روايته الأولى بعنوان “مذكرات متسوّلة” عن دار الفراشة الكويتية. وتأتي هذه الرواية بعد مجموعته الشعرية “سمير وسميرة” الصادرة عام 2013، وكتاب “ذاكرة مثقوبة” الصادر عام 2015، والذي عالج فيه مشروعه الثقافي الخاص الممتد حاليا ضمن ملابسات روايته الحديثة، حيث تدور مضامينه حول مفردة “الذاكرة” وتشريحها بكل أبعادها المختلفة. مذكرات متسولة عن انتقاله من منصة الشعر إلى السرد يوضح الطلاق بأنه لن يخرج في كلامه عن إجابات الشعراء الذين انتقلوا إلى الرواية عدا أن حالته قد تكون مختلفة، حيث أن كتابته لرواية “مذكرات متسوّلة” حدثت كـ”شرارة” من موقف شخصي استفزّ مخيلته، ممّا جعله يسترجعه كمشهد لأشهر عدة، ومن ثمّ كتب صفحة واحدة فقط، إذ لم يكن لديه ساعتها مشروع للرواية. يقول ضيفنا “بدأ خيط السرد يتشكل مع شهوة مفتوحة تتيحها الرواية، فالشعر لا يستوعب كل هذه الأصوات والانفعالات والحوارات، أخذ مني كل هذا أكثر من ثلاث سنوات. أما الشاعر فلا يمكنه إلا أن يكون ‘شاعرا‘. لا أزكّي نفسي، ولا أكسوها بردة الشعر، لكن هو ما أظنه على الأقل”. في عمل سردي مختلف عن التيار الروائي السائد في المنطقة يفكك الطلاق تركيبة النسيج الاجتماعي لمدينة القطيف، من خلال مذكرات متسوّلة تكشف بعض ملامح العالم السري للمدينة، وتفتح الأسئلة على المستوى الإنساني والديني والسياسي والاقتصادي، حيث نواجه بطلة الرواية “عفاف” بشخصيتين متناقضتين، كل واحدة منهما تحاول أن تغيّب الأخرى في عالمها الخاص. فنقف في الضفة الأولى “هنا” على شخصية البطلة المثقفة الواعية المتخرجة من الجامعة تخصص “رياضيات” بتقدير ممتاز. بينما نواجه في الضفة الثانية “هناك” البطلة المتسوّلة المختبئة وراء عباءتها ونقابها، والتي دفعتها ظروف الحياة إلى الجلوس على عتبة الحاجة. ويرى محدّثنا أن هذا التفكيك هو وظيفة الرواية دون إهمال وظائف أخرى هامة كـ”الخلاص” الإنساني الذي يضعه مدار كتابة الرواية الحديثة بفتحها على النهايات والأسئلة وتشظي الشخوص كما الواقع الحديث تماماً. يقول الكاتب “وظيفة المثقف هي أعلى من ‘تعرية’ الواقع كما هو، وإلا لتحوّل إلى مجرد ضوءٍ ينعكس على بقعةٍ ما، هو دور قيادي بظني مفقود من المثقف العربي الحالي لارتفاع أصوات النشاز والغوغاء وانتشار ‘الميديا’ بشكل سريع جداً لم يُسعِف المثقف ليركض مجارياً الحداثة. أضف إلى ذلك غياب المجتمع المدني المتماسك الذي أدى إلى الإخلال بوظيفته. وإن استطعتُ بروايتي تفكيك النسيج الاجتماعي فهذا بحد ذاته نجاح للرواية”.عين على العالم السري لمدينة القطيف اختار الطلاق أن يكون صوت الراوي “أنثى” متقمصاً بذلك حالاتها العاطفية والانفعالية المختلفة. ولا شك أن في ذلك تحدياً كبيراً، فاختيار السرد بذاكرة أنثى هو امتحان حقيقي لقدرة الروائي على سبر أعماق شخوصه الروائية. ولسنا بحاجة هنا إلى التذكير بمجموعة روايات عالمية وعربية تناولت هذه الذاكرة السردية على لسان الجنس الآخر. ولكن، لماذا كانت ذاكرة أنثى ولم تكن ذاكرة رجل؟ هل هو انتصار لها، أوَلَيس الرجل في مجتمعاتنا العربية كلها مهمشاً أيضاً؟ يجيب ضيفنا “حسناً، ما ذكرتَهُ أتفق معه تماما، عدا أن الشخصية كانت ‘أنثى‘ لا غير، ولو كانت رجلاً هو يستحق الحكي ‘بلسانه‘ كذلك. التحدي كان لذيذا لكوني كمؤلف ‘جندرياً‘ مختلفاً عن البطلة، وكان مرهقاً ومتعباً ولذيذاً في الوقت ذاته، لذا لم أختر ذلك المنحى. دعني أقل إنّ الرواية اختارتني، والشخصية استدعت الكتابة عنها وحسب. الرواية واقعية الدلالة أكثر من كونها تمُس الواقع، وبرأيي نحن نفتَقِرُ إلى الروايات المفكِّكة للواقع المحلي، فلمَ لا يكون دور الكاتب ملء فراغها مثلاً. والرواية ليستْ انتصاراً لشخصية المتسولة وحدها طبعاً فهي انتصار للإنسان عموماً لكونهما يشتركان في المصير ذاته والأسئلة ذاتها والتشظي الحداثي ذاته”. النهاية السعيدة وبالعودة إلى تفاصيل الرواية سيلاحظ القارئ أن الطلاق اختار نهاية سعيدة لبطلة الرواية “عفاف”، فقد انتهت مشكلتها المادية، ونجحت في حياتها العملية، وانحلّت كل مخاوفها. والنهايات السعيدة ليست هي الحياة، فهي حياة يمكن مشاهدتها في الأفلام السينمائية فحسب. هذه الخاتمة السعيدة دفعتنا إلى سؤال ضيفنا عن ما لو أنه جعل نهايتها كارثية سوداوية كأن “تدخل السجن، أو تصيبها رصاصة طائشة في المظاهرات التي حصلت في القطيف، أو تنتحر، أو يكشف أمرها؟ ألم يكن ذلك سيكون أكثر مصداقية وإيلاماً للقارئ الذي سيخرج ساعتها من الرواية وهو يحمل سؤاله المصيري المؤلم؟ يعلّق الكاتب متسائلاً “هل كانت نهاية البطلة سعيدة حقاً؟ السعادة باختصار تحقيق الأمنيات في الحياة بكل مناحيها خصوصاً الحب. نلاحظ أن بطلة الرواية لم تحقق أيّ أمنية، فهي لم تنشئ جمعية للعلوم، ولم تنل حظاً من حياة زوجها ‘محبوبها‘. وحتى عملها بالنهاية مختلفٌ كليًّا عن تخصصها”.الخلاص الإنساني الذي يضعه الكاتب مدار كتابة الرواية الحديثة، بفتحها على النهايات والأسئلة وتشظي الشخوص ويتابع في السياق ذاته “تورطتُ شخصياً في الخاتمة لمدة ستة شهور، ولو دققنا في التوتر ‘الدرامي‘ للشخصية لرأيناها متقلبة بين الجرأة الحادة والتخوّف من ‘الانكشاف‘ التام. لذا برأيي -هو رأيٌ وحسب- كانت النهاية متوترة ومفتوحة، لانفتاحها على الأسئلة التي سألتها البطلة ‘ما هو القدر؟‘ مثلاً. أما ما ذكرت من احتمالات فصحيح، الحياة هي مجموعةٌ منها، وتقمص الروائي جيداً للشخصية يحدد مدى واقعيتها فقط”. وفي حديثنا مع الطلاق عن حركة الصحوة في السعودية خلال ثمانينات القرن العشرين من جهة، وتصدير الثورة الإيرانية في الوقت ذاته من جهة ثانية، ومدى تأثير هذين الخطابين على الثقافة آنذاك وعلى الجيل الثقافي لاحقاً، يرى ضيفنا أن ما نعيشه هو تخبط بين تعددية للخطابات المُرتجلة يوازيها ضعف السند الاجتماعي للثقافة، بسبب خلط الناس بين الثقافة والانفلات نتيجة بعض الخطابات السقيمة. يقول “الخطاب الديني يعاني أزمة داخل نفسه. ونلاحظ ذلك بعدم تقديمه أي نتاج حضاري مهم سوى الدوران حول الماضي دون البحث بفلسفة نقدية للتاريخ مثلاً. والأدباء والمثقفون آنذاك هم أولى مني بالإجابة، لكني كجيل ممتدّ لهم أجد أنهم عانوا معاناة مضاعفة، وهي معاناة الوطن ككل تجاه ما يعرف بالصحوات. مشكلة الصحوات تبدأ من الاسم، فالناس لم يكونوا في ما يشبه النوم أو الغفلة الدينية حتى يحتاجوا إلى صحوة ما”. يظن سامي الطلاق أنه قبل الربيع العربي كان المثقفون السعوديون تجمعهم بعض القضايا المصيرية المشتركة مثل قضايا القبلية والطائفية والتنمية الفكرية، فكلها -حسب رأيه- هموم مشتركة تجمعهم شاؤوا أم أبوا. ولكنه يستأنف حديثه قائلا “بعد ما سمي بالربيع العربي هناك انقسام، بل شرخ واضح بسبب ‘التأدلج‘، لا بسبب التموضع ثقافيا بشكل صرف. السلطات تدرك مدى تأثير المثقف على الوعي والمعلومة، لذا إن لم نوجد خطاً ثقافياً مستقلاً عن المؤثرات لن ينجو أحد مطلقاً، وهذا خطر كبير على أي أمة تريد الاستمرار نحو مستقبل التاريخ، لا الوقوف على تل وهمي ينجيها من طوفان الجهل الاجتماعي بسبب القيود المفروضة على العقل واعتماد التلقين كإرساء للمعلومات بدلاً من التفكير والمشاركة”.
مشاركة :