إلحاق لما ذكرناه في مقالنا الفائت حول التقسيم الجغرافي لمدينة القدس فأيّا كان هذا التقسيم، فهو لا يخرج من جغرافية الأرض وليس من قدسيتها؛ فقدسيتها مرتبطة بالمسجد الحرام، ومن المسجد الحرام تصل القدسيـّة إلى المسجد الأقصى، وهذا ما يؤكده الحديث النبوي الشريف الذي ورد في الصحيحين عندما سأل أبو ذر الغفاري النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قال: قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة. ثم أين أدركتك الصلاة بعدُ فـَصَـلِـهْ».وجاءت الباحثة الإنكليزية الأستاذة كارين آرمسترونغ؛ لتبتعد عن الأهمية المكانية والأهمية الزمانية، وتضع أهمية المقـدّس بدلا عنهما، فالمقـدّس يكمن في (مكة والقدس) وهي بذلك قد حددت بقعتين طاهرتين مباركتين ارتبطتا بجنات الخلد، وهذا ما أراه أيضا وأوافقها الرأي فتقول «عندما قال كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين إن القدس أو مكة تحتل مكانة جنـّة عدن، فإن ذلك ليقولوا إن تلك الأماكن الأكثر قدسيـّة تقدم نوعاً من الانسجام البدائي الفردوسي الذي يـَسـِـمُ ويميـّز عادة اللقاء مع الله. ولهذا سمـّيت القدس مدينة السلام» أ.هـ.ولكن دعونا نسمع المهندس رائف يوسف نجم ماذا يقول عن قدسيـّة القدس «إن اشتقاق مدينة القدس كما جاء في لسان العرب في مادة (قدس) القدس تنزيه الله تعالى. وهو المتقدس، والقدوس، المقدس. والقدوس تعني الطاهر المنزه عن العيوب والنقائض». وفي التنزيل «... وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ...» البقرة: 30. «فمدينة القدس إذن في اللغة العربية هي البلد الطاهر المنزه عن العيوب والنقائض» أ.هـ.وهذا يعني أن مدينة القدس قد استمدت قدسيتها مباشرة من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد ربطها بذاته المنزهة عندما قال عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى...﴾ الإسراء:1.وتتساءل الباحثة الإنكليزية كارين آرمسترونغ، بانزعاج شديد حول ما يدور في القدس من صراع مرير بين أطراف متنازعة لا يتركون شيئا لصوت العقل والحكمة، فتقول «ضمن السخرية المؤكدة أن تكون الحقيقة الوحيدة التي يتفق حولها كل المتخاصمين المتنازعين سواء أكانوا من اليهود أم المسيحيين أم المسلمين هي أن المدينة «مقدسة» بالنسبة إليهم. وكيف يمكن لمدينة تثير مثل تلك القسوة والظلم أن تكون مقـدّسة؟ وحيث إن كل الأديان التوحيدية الثلاثة تلتزم بمبادئ الخير والعطف والحنـوّ فكيف لمدينة تعجّ بكل تلك النشاطات غير المقـدّسة أن تكون مقـدّسة؟» أ.هـ.وكأن الباحث المهندس رائف نجم يشعر هو الآخر بهذه الغصة، وبهذه المرارة، وينزعج مثل انزعاج كارين، وكأنه يناجي تلك المدينة الرائعة، ويتباهى في صمودها وشموخها وقدسيتها قائلا «تعتبر القدس الشريف من أهم المدن على وجه الكرة الأرضية بالنسبة لدورها الممـيـّز على مدى التاريخ بالرغم من أنها مدينة لا زرع فيها ولا ضرع. ماؤها قليل، وليست من المدن التجارية الهامة، ولا هي من المدن الصناعية، ومع ذلك فقد شهدت ما لم تشهده غيرها من المدن، في الشرق أو الغرب، من ظلم البشر، وكانت على مرّ العصور مطمع أنظار الغزاة والفاتحين، فحوصرت مراراً، وهـدّمت وأعيد بناؤها تكراراً، ولكنها بالرغم من هذا كله صارعت الأحداث الجسام وصمدت وبقيت مدينة حيـّة في هذا الوجود، وظل اسمها في طليعة البلدان. إنها مدينة الأديان، مدينة الآثار، مدينة السحر والجمال. إنها مقـدّسة في نظر جميع الأديان السماوية، وقدسيتها هذه كانت السبب في شقائها، وفيما انتابها من محن وسفك دماء وتدمير» أ.هـ.من خلال حديث المهندس رائف حين قال (بالرغم من أنها مدينة لا زرع فيها ولا ضرع)، نجد هذا التجانس وهذا الارتباط بين مكة والقدس، يقول الله سبحانه وتعالى على لسان سيدنا إبراهيم: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» إبراهيم:37.ولكن كيف تكون مدينة «لا زرع فيها ولا ضرع» وقد جاء في تقسيم تضاريس فلسطين الأربعة (السهل الساحلي، المناطق الجبلية، مناطق الأغوار، منطقة النقب) بأن مدينة القدس تقع ضمن قسم المناطق الجبلية «الذي يشتهر بزراعة الزيتون والتين والعنب والرمان واللوز وغيرها، وهذه المنطقة الجبلية تساوي ربع مساحة فلسطين، وبها سلسلة جبال القدس ومن أشهرها جبل الزيتون (الطور) الذي يقع بالقرب من بيت المقدس، وسمي بهذا الاسم لكثرة أشجار الزيتون المزروعة في كل بقعة منه، وقد أطلق عليه الفرنجة اسم جبل الأنوار، ويعرف أيضا باسم جبل الطور، وذكره المؤرخون العرب باسم (طور زيتا) ويوجد على الجبل أشجار الزيتون والتين والعنب، كما يزرع على سفحه القمح الجيد»، هذا ما ذكره الباحث تيسير جبارة.ودليل آخر على وجود زراعة فيها حيث يقول الباحث أحمد صدقي الدجاني «لقد كشفت التنقيبات الأثرية عن حقيقة أن موقع القدس كان مأهولا في عصور قديمة، فقد سكن الإنسان القديم فيه، وهناك من آثار له تم كشفها ما يعود إلى العهد البليتوسيتي، والعهد الباليوليثي، وقد استقر المناخ في هذا الموقع في العهد الميسوليثي وبدأت الزراعة فيه في العهد الينوليثي. وحين اختار الكنعانيون الموقع لبناء المدينة بدا واضحا أنه يخدم غرضا دفاعيا وآخر دينيا، وقد جعل منها ( سرة ) أرض كنعان، أول اسم عرفت به فلسطين، وقد بدأ بناؤها على تل الضهور قرب عين جيحون ثم امتدت إلى تلال موديا وصهيون وبزيتا» أ.هـ... وللحديث بقية!* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com
مشاركة :