عالم الأزهر سعدالدين الهلالي اعتاد أن يجعل من نفسه عالمًا أزهريًا وسطيًا لا يعترف بالتراث على إطلاقه أو بالتمسك بكل ما هو متعارف عليه دينيًا وفقهيا.العرب أحمد حافظ [نُشر في 2017/07/22، العدد: 10699، ص(12)]سعدالدين الهلالي أزهري يرفض وصاية الاجتهاد الواحد ويؤمن بتعدد الآراء القاهرة- ليس من المبالغة في شيء القول إن سعدالدين الهلالي، العالم الأزهري المصري، لم يدلِ بتفسير أو يفصح عن رأي في قضية أو يتحدث في وسائل الإعلام إلا ويتعرض لهجوم قاسٍ من جانب الأزهر وبعض علمائه، ليس هذا فحسب، بل إن شيوخ الجماعة السلفية والمتشددين من التيارات الدينية تجدهم يسيرون على نفس نهج الأزهر الإقصائي لكل مجدد يسعى ليجتهد ويفكّر في الحداثة. اعتاد الهلالي أن يجعل من نفسه عالمًا أزهريًا وسطيًا لا يعترف بالتراث على إطلاقه أو بالتمسك بكل ما هو متعارف عليه دينيًا وفقهيًا، برغم عمله كرئيس لقسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر، وكثيرًا ما يدلي بآراء وتفسيرات تحترم عقلية كل مشاهديه ومتابعيه، وهو يؤمن أن الإنسان غير مطالب بفعل شيء أو التمسك برأي أو تفسير لا يتفق مع عقله وإنسانيته. يُنظر إليه من جانب الأزهر والسلفيين على أنه شخصية “شاذة الفكر والعقيدة”، لا مانع أن تصدر مؤسسة الأزهر بيانًا صحافيًا للهجوم عليه والتشكيك في آرائه وتفسيراته والتنصل من كل ما يسوقه بشأن الدين والقضايا الحياتية التي تشغل الناس، لكنه لا يبالِي بكل ذلك ويسير في طريقه غير عابئ بما يحاك ضده. مهندس العلمانية والإباحية بسبب آرائه ومواقفه وصفه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أنه “عالم شاذ التفسير”، ولأنه يترك للناس حرية الاختيار بين مختلف الآراء الدينية والفقهية دون أن يحسم القضية التي يتحدث فيها برأي ديني واحد، أطلق عليه ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية لقب “مهندس العلمانية والإباحية ومستورد الحضارة الأوروبية التخريبية إلى البلاد”. ألف الهلالي أن تنطلق تفسيرات آرائه الفقهية من قاعدة “كثير من الحلال، قليل من الحرام”، فهو الذي أباح أمورًا كان يستحيل على الأزهر إباحتها أو مجرد إعادة التفكير فيها لأنها بالنسبة إلى تقديرات الأزهر منتهية وممنوع الحديث فيها، من بينها حرمة خلع المرأة للحجاب، لكن الرجل تحدّى الأزهر أن يثبت هذه الحرمة بشكل قاطع أو يأتي بحديث صحيح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد ذلك. زاد على ذلك أن حجاب المرأة لا يوجد له دليل شرعي لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وكل ما قيل في هذا الموضوع محض آراء خاصة لعلماء سابقين وصفهم الهلالي بأنهم “أوصياء على الدين”. يرفض فكرة “إجماع الآراء”، مثلما يفعل الأزهر وهيئة كبار العلماء عند حسم أيّ قضية وحجته في ذلك أن الإجماع اتفاق بشري وليس حكمًا سماويًا، وحتى في إثبات الحجاب بالإجماع، حسب رأيه، فإن إجماع العلماء يتغير بتغير الزمن، ودلّل على ذلك بالعمامة، التي كان إجماع العلماء عليها أن من يخرج بدون عمامة من الرجال تسقط مروءته، فهل يجب أن نعود للعمامة الآن؟ حصل الهلالي على درجة الأستاذية بجامعة الأزهر عام 1996 وتخصص في قسم الفقه المقارن بعدما تخرج في كلية الشريعة والقانون عام 1978، وعيّن معيدًا بعد عامين من تخرجه وتولّى عمادة كلية الدراسات الإسلامية والعربية فرع الأزهر بأسوان ثم عمادة كلية الدراسات الإسلامية والعربية فرع الأزهر بدمياط في العام التالي. بعدها سافر وعمل أستاذًا للفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الكويت ثم تولّى رئاسة القسم عام 2002، وعاد إلى القاهرة عقب تولّي الشيخ على جمعة منصب مفتي الديار المصرية، الذي استعان به في بعض القضايا الفقهية الكبرى.الهلالي يعادي كل ما هو متطرف ويتخذ من البساطة في الدين منهجا وخصومه اتهموا فكره بأنه يتسق مع فكر تنظيم داعش الإرهابي خلال مشواره حصل على العديد من الجوائز من دول عربية عديدة منها جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عام 2003، وجائزة الدولة التشجيعية في مجال العلوم القانونية والاجتماعية بمصر عام 2007، فضلا عن جوائز أخرى من السعودية والإمارات والبحرين على مؤلفاته في التجديد الفقهي والتفسير. دكتاتورية رجال الدين يمكن حصر معركة الهلالي مع مؤسسة الأزهر في أن الأخيرة تعتبر نفسها وكيل الله في الأرض، والمتحدثة باسم الإسلام، وتحلل وتحرّم، ولا تريد لأحد أن يقترب من هذا الملف بالسلب أو الإيجاب، حتى تكون وحدها في صدارة المشهد الديني، لكنه ينظر إلى ذلك على أنه احتكار للدين والعقل ما يقضي على تعددية الفكر والتفسير. هذا المنطق الأزهري في نظره أسوأ أنواع الدكتاتورية وأبرز الأسباب التي تقف حائلًا أمام تجديد الخطاب الديني، لأن هناك من يريد احتكاره بآرائه وتفسيراته الواحدة لا المتعددة، فعندما يكون هناك رأي واحد فالدعوة إلى التجديد درب من دروب الخيال، ولا بديل عن ترك علماء الدين يفسرون كما شاؤوا ويتركون للناس حرية الاختيار بين هذه التفسيرات القائمة على أساس علمي بحت. يضاف إلى ذلك، أن الهلالي يعتبر أن فكرة الرأي الواحد ضدّ الدين ولا تخدم سوى أعدائه، بالتالي فالتعددية الفكرية أحد أسلحة مواجهة التيارات المتطرفة والمتشددة دينيًا لأنهم أيضًا ينشئون ويتوسعون لتمسكهم برأي واحد لا يمكن أن يخرج أحدهم عنه، أما لو كان هناك آراء عدة لتفرّقوا عن بعضهم بعيدًا عن دكتاتورية التفسير الأوحد الذي يكفّر وربما يقتل ويسفك الدم. هو أحد أبرز الأزهريين الذين يسعون إلى تجديد الخطاب الديني باجتهادات واقعية بعيدًا عن التشدد الفكري والتمسك بالتراث، وهذا ما عرضه، ولا يزال، لهجوم قاسٍ على مدار الوقت من الأزهر عند الرد على تفسيراته وحججه التي يسوقها لتبسيط أمور الدين والقضايا التي تتعلق بحياة الناس. يحمل الرجل أفكارا بسيطة وسهلة وبعيدة عن الجمود الذي يسيطر على عقلية الكثير من علماء الأزهر، وما يجعله يربح الرهان في كل معركة أنه يمتلك من الحجج والبراهين والتفسيرات المبنية على أدلة ووثائق لا يستطيع أحد بسهولة أن يوقع به الهزيمة.فكرة "إجماع الآراء" مثلما يفعل الأزهر وهيئة كبار العلماء عند حسم أي قضية يرفضها الهلالي الهلالي شخصية أزهرية تبدو شجاعة بالنسبة إلى الكثيرين، لا يتراجع عن آرائه مهما بلغت حدة الهجوم عليها والتشكيك فيها، ومع كل موقف يتعرض فيه للنقد والطعن في كلامه، يستخدم أساليب التحدي والصرامة في الرد على شاكلة “أنا أتحدّى أحدا أن يواجهني”، “أتحدى الأزهر أن يأتي بدليل على كلامه”، “أتحدى هذا الشيخ إذا كان يمتلك برهانًا واحدًا لتفسيراته”. يتعامل مع الأزهر وعلمائه بطريقة “أنا نشأت بينكم وتعلمت في معاهدكم وشربت مذاهبكم وأعي ما يدور في رؤوسكم ودرست نفس مناهجكم، وكلّ ما أسوقه للناس موجود في كتب الأزهر فلا داعِي لهذه الألاعيب”. أقسم في بعض من حواراته على أن آراءه الدينية موجودة بالنص في كتب الأزهر ومناهجه، وإذا اتهمه بعض العلماء بافتقار الحجة يظهر جهلهم، وإن بارزوه في عموم الدين بارزهم في تفاصيله فلا يصمدون، ويستمر ويطلب المزيد من المبارزة. أزمة الأزهر مع سعدالدين الهلالي أنه يمتلك الحُجّة مقابل الحُجّة، ويقدم برهانه أمام برهان الأزهريين ممن يطعنون في كلامه، ما جعل بعضهم يلجأون إلى محاولة كسر شوكته من باب الاغتيال المعنوي لتفرقة أنصاره لدرجة بلغت حد اعتبار فكره متسقًا مع فكر تنظيم داعش الإرهابي، على الرغم من أنه يعادي كل ما هو متشدد ومتطرف ويتخذ من البساطة في الدين منهجًا. طوق نجاة يعد الهلالي من الأزهريين القلائل المفضلين لدى فئة المثقفين والأدباء والمفكرين وتراهم يستندون إلى آرائه للرد على تمسك الأزهر بالواقع الحالي دون تجديد بدعوى عدم تخريب التراث. وينظر التنويريون إلى أن الآراء الدينية التي يقدمها على أنها تمثل طوق النجاة للمواطنين التائهين وسط الفتاوى المتشددة والمتحجرة، لا سيما وأن مبدأه في التفسير والتجديد الفقهي يقوم على أساس أن الإنسان غير مجبر على تنفيذ التعليمات الدينية التي لا تتفق مع عقله ولا يقتنع بها فؤاده، حتى لو جاءت من أعلى سلطة دينية، فالأديان وجدت لخدمة الإنسان وليس العكس. بعض دوائر الحكم في مصر ترى أن طروحاته تساهم في تفكيك جمود الفكر الديني عند بعض علماء الأزهر وشيوخه، ولا ينسى له البرلمان، ولا الرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه، أنه كان من القلائل الذين وقفوا في وجه الأزهر عندما رفض مقترح إلغاء الطلاق الشفهي، وقتها ردّ الهلالي بأن موقف الأزهر يساهم في تخريب الأسرة.سعد الدين الهلالي يؤمن بأن الإجماع اتفاق بشري وليس حكما سماويا، لأن إجماع العلماء يتغير بتغير الزمن، ويدلل الهلالي على ذلك بالعمامة خلاف الرجل مع كل منتقديه، داخل الأزهر أو خارجه، أنه ينتهج منهج التيسير لا التعقيد، ويسعى جاهدًا لإيجاد حـلول للمشكـلات والتحـديات المعـاصرة التي طرأت على مجتمعه، ولا يمكن حلها بآراء فقهية عفا عليها الزمن ولم تعد تصلح لهذا الزمان أو البيئة الاجتماعية الراهنة لما لحق بها من تقدم علمي وتنويري. ويطبّق قاعدة لا يقرّ بها الأزهر، وهي أنه يقوم بتفعيل جـميع الآراء التي وردت في الفقه الإسلامي واجتهادات الصحـابة والتابعين ومختلف المذاهب الفقهية، ثم يطرح الآراء بأنواعها على الناس، ويترك لهم حرية اختيار التفسير الذي يناسـب ظروفهم وحياتهم وأفكارهم ومشكلاتهم، ولا يفرض عليهم رأيًا ولم يعتد حسم أيّ مسألة فقهية بردّ واحد. أبرز دعاة التجديد المعاصر يقول الهلالي “فرض الرأي الواحد وصاية لا بد أن تنتهي، ولقد طلبوا مني في الأزهر ألا أنشر المعلومات التي درستها خارج الأزهر، وألا أخرج إلا رأيا واحدا فقط، فقلت لهم وما هذا الرأي الذي تريدون أن أروّج له؟ فقيل لي بالحرف الواحد.. لو اخترت رأيا واحدا حتى ولو كان ضعيفا سوف نؤيده”. في مبدأ الهلالي، هذا فعل غير أمين، لأن أمانة الفقيه أن ينقل كل الآراء حتى يستمتع الناس بالتعددية الفقهية، والوصاية على الشعب برأي واحد نابع عن مؤسسة واحدة ليس في صالح تجديد الخطاب الديني. التجديد عنده يبدأ من العودة إلى المنهج العلمي بذكر كل الآراء في المسألة الواحدة، واتّباع ذلك يحلّ كل المشكلات، ويجدد الخطاب بشكل تلقائي وعلى أكمل وجه، فالعالم يتطور بطبعه. لأنه يتمسك بقاعدة فقهية شعارها “استفت قلبك”، فإنه أصبح من أبرز دعاة التجديد المعاصر الذين درجوا على ترجيح كفة “الرأي الواحد”، وتقديمه للناس باعتباره الرأي النهائي للإسلام في كل قضية، وهو ما يراه الهلالي نوعا من الوصاية والكهنوت الديني.معركته مع الأزهر تظهر دور ومكانة هذه المؤسسة كوكيل الله في الأرض تحلل وتحرم على مزاجها قال الهلالي “سبب الغضب من كلامي وآرائي أنني أحاول نقل السلطة من صاحب الخطاب الديني إلى الشعب مرة أخرى، فأصحاب الخطاب الوصائي ما لبثوا أن هزموا نصف المجتمع متمثلا في المرأة بإعطائها أوامر وتعليمات دينية ومنعها من التفكير، رغم أن المرأة من حقها أن تفكر، حتى تحولوا إلى السعي نحو هزيمة النصف الآخر بتعليمات دينية متحجّرة”. تنظر الحركات النسائية في مصر إلى الهلالي على أنه الأزهري الذي يسعى لتحرير المرأة من قيود التشدد الديني، وتعتبره سيدات ورموز مجتمع الظهير المعتدل الذي يدافع عن المرأة ويحصّنها من التحقير والإذلال والحط من شأنها، ويقف حائًلا ضد محاولات اعتبارها كائنا من الدرجة الثانية. الهلالي من أبرز علماء الأزهر الذين اعتادوا في كل مواقفهم وآرائهم الدفاع عن المرأة وحقوقها وعدم الانتقاص منها، وهاجم الأزهر والسلفيين مرارا بسبب تفسيراتهم حول طبيعة حياتها ودورها. يتعامل مع هؤلاء على أنهم نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين ويفرضون على الجميع الأخذ بالرأي الذي على هواهم كي يذلّوا المرأة ويضعوها في خانة العبيد، وقال ذات مرة مخاطبًا الرجل الذي يمنع زوجته من الخروج من المنزل لاقتناعه بمثل هذه الفتاوى الشاذة “أدعوك أن تجلس في بيتك لمدة شهر واحد وحدثني بعدها عن مشاعرك إن كنت تستطيع فعل ذلك من الأساس”. يجاهد الهلالي لأن يصل إلى مبتغاه لتحرير العقول بعيدًا عن وصاية رجال الدين، ويتعامل بطريقة “اتركوا للناس حرية التدين، ولا تتخذوا من الدين والقرآن دستورًا، لأنه قُدّم للناس كهدي يؤوّل ويؤخذ منه بكل حرية، ولا يجب أن يعتبر كل من يتحدث في الخطاب الديني نفسه وكيل الله في الأرض”.
مشاركة :