نص شخصي يكاد ينكر وجودهقدمت صالة “أجيال” في العاصمة اللبنانية بيروت معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية فاديا حداد، مستعرضة مجموعة من الأعمال بأحجام مختلفة انتشرت على الجدران البيضاء تحت عنوان “وجها لوجه”، وقد يستسيغ معظم الزائرين إعطاء عنوان آخر للمعرض أكثر إشارة إلى ما شاهدوه، وهو “أصباغ لونية وأكريليك على قماش” وذلك لأسباب عديدة.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/10/27، العدد: 10794، ص(17)]تصورات وإحالات متنوعة بيروت – تحت عنوان “وجها لوجه” قدمت صالة “أجيال” البيروتية معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية فاديا حداد المولودة سنة 1959، والتي تخرجت من جامعة “ألبا” اللبنانية عام 1983 ولاحقا من كلية الفنون في باريس. وتحضر في لوحات حداد أصباغ قليلة وقماش ونص فني “مينيمالي” يتمتع بنوع من اكتفاء ذاتي يُحسد عليه لا يهمه إلاّ أن يُسعد صانعه، أي الفنانة، وكفى. تجريد التجريد يستحيل النظر إلى اللوحات الجديدة للفنانة اللبنانية فاديا حداد دون أن تعود الذاكرة إلى معرضها الأخير الذي قُدم هو أيضا في صالة “أجيال”، إذ غلب صقيع وجداني ما على كل لوحاتها الجديدة، خلافا لمعرضها الأخير الذي حمل عنوان “مشاهد”، حيث طغى اللون الرمادي وانفلت مُتداخلا مع اللون الأبيض والأسود في انسياب أفقي، ذكّر بالبحر دون أن يكونه، وأحال إلى سماء الشتاء دون أن يكون شتائيا. لوحات على الرغم من رماديتها وخطوطها الأفقية المتعرجة سكن الدفء في “أوصالها”، أوصال تمددت وعقدت صلة مع ذاتها وخيال كل زائر تمعّن فيها وفي النبض الداخلي الذي سكنها. أما في معرضها الجديد، فعلى الرغم من حضور ألوان دافئة كالأحمر والوردي، وعلى الرغم من استدارة ريشتها في أفق اللوحات بتقشف يذكّر باللوحات اليابانية النموذجية، جاءت اللوحات شديدة البرودة، لا يلطًف ولا يُبرر من حياديتها أي شيء. صحيح أنه ليس من الضروري تصنيف الأعمال الفنية بشكل عام وإدراجها ضمن تيارات فنية معينة كالتعبيرية أو التكعيبية، ولكن لوحات الفنانة فاديا حداد لا يمكن النظر إليها دون العثور على سمات تجريد لا يتوقف عند حدّ ما، بل يتمادى ليكون تجريدا لتجريد ثان كاد يمسخ لوحات الفنانة ويسلبها تماما من أيّ معنى، شكليا كان أم معنويا. كما جاء النصان اللذان قدما المعرض، وهما لكاتبين مختلفين وبلغتين مُختلفتين، الفرنسية والإنكليزية، بعبارات وامضة أضاءت قليلا ثم انطفأت لتسقط جاثية أمام اللوحات. نصان ليسا أقل تجريدية و”تلغيزا” لمّا يقف زائر المعرض أمامه، أي اللوحات، إذ يجدها تعبيرا بصريا عن”نيهيلية” مُقلقة تقنعت بألوان ومسحات لريشة مُستديرة في معظمها، لتحاكي فقط ما جال في بال الفنانة أثناء لحظات التنفيذ، ولو كان للوحات أن تنطق لقالت “ليس من المهم أن ترى ما رأيت، ولا أن تتذكر ما رأيت في حال رأيت.. أنا نص شخصي مُحكم يكاد ينكر وجوده”. لا شك أن للفنانة فاديا حداد باعا طويلا جدا في الفن، هي الآن تعيش في باريس وقد شاركت في معارض جماعية كثيرة ولها معارض فردية عديدة داخل لبنان وخارجه، ومن البلدان التي عرضت فيها الفنانة نذكر فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة الأميركية.أصباغ لونية من الأكريليك على قماشة تجريدية صوفية ومعظم المهتمين بسيرتها الفنية يدركون ما هو العصب الرئيسي والمُحرك ليدها ولانسياب ريشتها وتقطعها، كما يدركون تماما ما هجست به الفنانة طويلا، هنا يجب ذكر اهتمام الفنانة الكبير بالأقنعة، خاصة تلك المرتبطة بممارسات طقسية، كما يعرف المهتمون بفنها بأن عملها نهل من أشكال تلك الأقنعة النافرة والمُقعرة، القاتمة والملونة عبر تصورات وإيحالات متنوعة. أقنعة ومشاهد لكثرة ما عملت فاديا حداد انطلاقا من هذا المكان بالتحديد وصلت إلى نوع من التجريد ضمن ثيمة الأقنعة والمشاهد الطبيعية في صيغة شخصية جدا، لا يعرف تماما معانيها أو على الأقل انطلاقات معانيها إلاّ الفنانة ذاتها. كما شغلت ثيمة العصفور لوحاتها لفترة غير قصيرة تميزت بشاعرية تجريدية مُكثفة ارتقت بنصها إلى مستوى صوفي، تلوّن بأسود مخملي حبس الضوء في داخله وفرّجت عنه بعض شقوق سمحت بسريان الضوء إلى بصيرة المُشاهد. ويمكن استخلاص أربع ملاحظات أمام لوحات كلوحات فاديا حداد الجديدة، أولا، أنها أعمال اختارت لها الفنانة بأن تبقى في بداية مرحلة تكوينها وكأنّ هذه المرحلة الأولية هي كل ما يهم الفنانة، أعمال أشبه بنقاط على أسطر، أسطر لم تكتبها الفنانة إلاّ بحبر خفيّ لا يُرى إلاّ بعينها هي فقط. ثانيا، أنها لوحات تميزت بتقنية فنية غير مُتكلفة ومتقشفة إلى حد كبير، ولا تقدم أي طرح بصريّ جديد ولا أي مضمون دسم، إلاّ إذا كان مُختبئا تحت طبقات وطبقات من الإبهام غير المقصود. ثالثا، تبدو لوحات الفنانة كنسخة مخففة جدا عمّا سمّي بـ”أكشون بينتينغ”، وهو النمط الذي اشتهر به الفنان الأميركي جاكسون بولوك، ويتميز هذا الفن بالتركيز على الصبغة الملونة على أنها موضوع اللوحة، كما يركز على تحوّل الفنان إلى أداة حركية تولّد ظهور اللون وتشكلاته المُختلفة على سطح القماشة، وفي هذا السياق تلفت لوحات فاديا حداد نظر المُشاهد إلى اللون المُستعمل في اللوحات كمادة أولية وإلى حركة يد الفنانة التي تحمل الريشة، الحركة هي شكل العمل ومضمونه على السواء. أما الملاحظة الرابعة، فهي تتعلق بالخطوط الرصاصية والدقيقة المرسومة التي أرادت بها الفنانة الإشارة إلى أشكال أقنعة مُفرغة بشكل غير مُباشر، تكاد تلك الأشكال أن تكون موجودة في كل اللوحات، تتداخل مع البقع اللونية حينا وتقف في لوحات أخرى كالجسور ما بين التشكيلات اللونية. لكن رغم حضورها البارز، فهي ربما تضعف من قيمة الأعمال، إذ تبدو هذه الأشكال مُفتعلة ومزيّفة لا تنتمي إلى السياق العام للوحات. ومما لا شك فيه فإن فاديا حداد في معرضها الجديد هذا، حاولت أن تقيم خلطة سحرية ما، بين الثيمات المفضلة التي اشتغلت عليها سابقا، وربما تكمن القيمة شبه الوحيدة لهذا المعرض في فعل المحاولة، لا أكثر ولا أقل.
مشاركة :