يصفونه في الولايات المتحدة الأمريكية بأنه المفكر اليهودي الكاره وغير المتصالح مع ذاته، وقد يعزى ذلك لمواقفة الحدية من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وانتقاده غير المسبق لطغمة الاوليجاركية الأمريكية الحاكمة. نعوم تشومسكى عالم اللسانيات الأمريكي الأشهر، بدأ وكأنه أصاب أمريكا بحالة من الفزع الأيام القليلة الماضية سيما بعد النبوءة الأخيرة التي أطلقها عن مستقبل الدولة الأولى في العالم ومآلاتها. في حواره الأخير مع قناة “روسيا اليوم” أشار الرجل الكبير إلى أن أمريكا مهددة بالانهيار مضيفا: “نحن نسير بسرعة نحو الهاوية، وأسوأ هاوية تنتظرنا، سببها نظام السوق الجديد”…. هل مخاوف تشومسكى تتصل بالانسانية الأمريكية التي سخرتها الرأسمالية المتوحشة وقيادتها لمرحلة تسليع الانسان، ما أدى إلى خيانة العمال الأمريكيين علي سبيل المثال، من خلال نقل المصانع من الداخل الأمريكي إلى دول آسيا حيث الأيدي العاملة أرخص كثيرا، وإن أدى ذلك لامتهان كرامة وحياة البشر على الاراضي الأمريكية؟ الليبرالية الجديدة ..الكارثة القادمة في الحوار المشار إليه يبين تشومسكى أن التحول إلى ما يطلق عليه “الليبرالية الجديدة”، سيجعل السوق صاحبة القرار، وليس المجتمع، والمشهد أكثر مأساوية مستقبلا عنده وبخاصة في ضوء قيادة الشركات العابرة للقارات من قبل أفراد يسعون لتعظيم أرباحهم الفردية على حساب بقية المجتمع. رؤية تشومسكى تقلب الأنساق الفكرية الأمريكية رأسا على عقب، إذ يؤكد أن الليبرالية الجديدة التي ينادي بها فريق عريض من طغاة الراسمالية، لا تقود إلى الحريات أبدا، بل على العكس من ذلك، إذ إنها تكرس الطغيان وهو أمر يتسق مع حكم الاوليجاركية الحالية في واشنطن . هل جاءت تصريحات تشومسكى الاخيرة على وقع الصدام الدائر في الولايات المتحدة مؤخرا بين الرئيس ترامب الآتي من خارج المؤسسة السياسية الامريكية التقليدية ” الاستبلشمنت”، وبين النخبة الحاكمة في الكونجرس، وجماعات الضغط التي تشكل القرار السياسي بما يتفق وهواها ومصالحها الاستراتيجية، المغايرة حكما لمسارب حياة ملايين الأمريكين البسطاء من العوام؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل، وإن كان تشومسكي يشير إلى الفاتورة الباهظة التي يتحملها كل من تسول له نفسه إنتقاد “الليبرالية الجديدة” إذ يوصف بشكل تلقائي بأنه عدو لأمريكا. الوصف المتقدم وبحسب تشومسكي يمكن للمرء ان يتفهمه حال جرت الامور في حاضنات ديكتاتورية اما أن يحدث في دول ديمقراطية فهذا معناه وجود خطأ كبير في المشهد السياسي الأمريكي الداخلي، ينبئ بسقوط مدوى بالفعل، سيما وأن الحزب الجمهورى كما يرى المفكر الامريكي الكبير قد كرس كل جهودة “لتحطيم حياة الناس”، ما يعنى أن الولايات المتحدة تتجه إلى الهاوية، في الوقت الذي يسعى فيه العالم فعل شيء ما. أمريكا والكارثة القادمة هل من كارثة حقيقية تضرب الولايات المتحدة الأمريكية لفت تشومسكي وغيره النظر إليها؟ الشاهد أن هناك ما هو أكثر إضرارا بالبلاد والعباد، ذاك الذى عبر عنه “مالكم هاريس” الكاتب الأمريكي عبر صفحات الواشنطن بوست الايام القليلة الماضية تحت عنوان “تسريبات الأمن القومي الأمريكي.. وجيل آحاد لا يثقون في حكومتهم” ما هي قصة هذا الجيل؟ الشاهد أنه ربما يتوجب علينا قبل الوقوف على جواب سؤال “هاريس” أن ننظر إلى ذاك الذي حصل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الاخيرة، فالمفاجأة كانت صادمة، إذ كيف لرجل صفقات وعقارات، بعيد كل البعد عن الحياة السياسية الامريكية،ولم يشغل يوما عضو مجلس بلدية أصغر مدينة في أمريكا أن ينتصر على السيدة الأولى للبلاد طوال ثماني سنوات، وعضو مجلس الشيوخ لفترة مساوية ثم وزيرة خارجية، عطفا على كونها واحدة من أمهر بل وأخطر مائة محامى في تاريخ البلاد؟ قطعا لقد كانت النتيجة المتقدمة نتاج طبيعي لفقدان غالبية الأمريكيين لثقتهم في النخبة السياسية الحاكمة، إذ كانوا يرون الفساد من حولهم، الرشوة والمحسوبية، الاقطاع يعود في صورة أخرى، تقزيم الانسان حتى أضحى ثمنه لا يتجاوز ثمن زوجي حذاء كما يقول عاموس نبي العدالة الاجتماعية عند بني اسرائيل، وكما يذهب تيار اليمين المسيحي الأمريكي. جيل لا يثق في بلاده على أن “هاريس” يفتح العيون على مسألة كارثية أشد هولا وهي أن الشباب الامريكي بنوع خاص فقد الثقة في حكومه بلاده وآية ذلك انه يسرب معلومات الأمن القومي إلى الآخرين. يعطينا “هاريس” ثلاثة نماذج لمن سربوا معلومات الامن القومي الامريكي مؤخرا “شيلسي هانينغ” الذي يقف وراء تسريبات ويكليكس، و “إدوارد سنودن” صاحب قصة الهرب إلى روسيا، ومؤخرا “ريالتي وينر” التي كانت تعمل محللة سابقة في شركة المقاولات الدفاعية “بلوريبوس انترناشيونال”، وهي اليوم سجينة في سجن فيدرالي، إثراتهامها بارسال وثائق سرية تتناول قرصنه روسية لشركة برمجيات إنتخابية امريكية إلى مجلة “إنتر سابت” الالكترونية. والمثير في شأن الشباب الثلاثة المسربين للمعلومات المتصلة بالامن القومي الامريكي انهم من مواليد الفترة بين 1983 و 1993 أي انهم بين العشرينات والثلاثينيات. هنا يتساءل البعض هل ما جرى حادثة خطيرة؟ الواقع أنها كارثة وليست حادثة، كارثة تبين أن مستقبل أمريكا ضبابي وهذه نتيجة لما ساد من فراغ القيم المعنوية على صعيد الحياة السياسية الامريكية . في العام 2016 جرى استطلاع للرأي أظهر إن ثقة 72% من الجيل الشاب في الحكومة الفيدرالية متدنية، واصداء ما فعلته شخصيات مثل هايننغ وسنود، ضخمة في اوساط الشباب أكثر من أي وسط آخر…. من كذلك يتفق مع نعوم تشومسكي في نبؤته تجاه الولايات المتحدة؟ مستقبل أمريكا وتاريخ عمورة احدث الكتب الصادرة في السوق الامريكي كتاب عنوانه “السير الوئيد نحو عمورة… تدهور اليبرالية الامريكية”، مؤلف الكتاب “روبرت هـ بورك” هو واحد من اهم القضاة الامريكيين، وقد رشحه الرئيس رونالد ريجان ذات مرة كعضو في المحكمة الدستورية العليا للبلاد. كتب القاضي رؤيته المحددة لامريكا في الالفية الثالثة فانتج كتابا يدور حول كل جانب من جوانب الثقافة والمجتمع والجنس والعرق والجريمة والرعاية الاجتماعية والدينية، كتابا لا يعد فقط وصفا شاملا للحالة الراهنه لكنه كذلك تحليل عميق لجذور هذه الحالة التاريخية والايديولوجية. عادة ما يأتى ذكر عمورة مصحوبا باسم سدوم. وهاتان البلدتان وردتا في العهد القديم من الكتاب المقدس في سفر التكوين، في الاصحاحين 18 و19، وهما تقعان بالقرب من البحر الميت، وهما من بين مدن خمس يقال انها جميعا قد تم تدميرها بمطر من الكبريت والنار، وربما كان ذلك مصحوبا بزلزال وقد حق عليها ذلك العذاب لما شاع بين اهلها من شر ورذيلة. ولا يخفي على من يعرفون القرآن الكريم ما جاء في قصة لوط مع قومه من الفاسقين، وما لقوا من دمار وعذاب أليم جزاء فسقهم. اما “روبرت هـ بورك” فيرى أن أمريكا بايغالها في السلوك الليبرالي وتطرفها في ممارسات مختلفة في الاقتصاد والرعاية الاجتماعية والممارسات الطبية من إباحة الاجهاض والتجارب على الأجنة والقتل الرحيم والمساعدة على الانتحار للمرضى الذين لا رجاء في شفائهم سوف تلقى مصير عمورة. والكاتب لا يرى أن هذا المصير سوف يؤدى إلى انهيار أمريكا فحسب بل بقية الغرب، كما يرى أن التطرف في المساواة والنزعة الفردية والاشباع الذاتي والمغالاة في عرض المشاهد الجنسية في وسائل الاعلام هي مقدمات لهذا الانهيار القادم ولا شك. هل من صحة ما لمثل هذه الاتهامات؟ الذين استمعوا من قبل لاسم “بيلي غراهام” يعرفون أن الرجل هو “واعظ البيت الابيض” ومحرك عواطف الرؤساء الامريكيين الدينية، إن وجددت من الأصل لدى القلة القليلة… يصرخ ” بيلي غراهام” الذي يقترب هذه الأيام عمر المائة (من مواليد 1918) بأن شر أمريكا قد فاق شرور “سدوم وعمورة”. والثابت أن الذين استمعوا إلى الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما وتصريحة المثير للاشمئزاز “لقد أنتصر الحب” غداة اعلان المحكمة العليا حق زواج الشذوذ كحق رسمى، أدركوا أن الفساد الليبرالي في الولايات المتحدة، ربما بدأ يدخل مرحلة مشابهة لتلك التي عاشتها الامبراطورية الرومانية، قبل ان يحطم القوط أركانها. الجيش الأمريكي يصيبه الوهن في مقال أخير شهير ومثير لمجلة “ناشيونال انترست” الأمريكية تساءل “دو غلاس ماغر يغور” العقيد المتقاعد في الجيش الامريكي، المؤلف والمستشار عن حال الجيش الأمريكي وهل هوآخذ بالفعل في الانهيار؟ منطلق السؤال يرتبط بفهم أوسع للقوى الامبراطورية والتي عادة ما تحتاج لاقتصاد قوي يكفل لها الانفاق على جيش قوى يتجاوز حدودها الجغرافية ، ويرعى مصالحها الاستراتيجية حل العالم، ثم إلى جيش جرار يقوم على حراسة مصالحها الاقتصادية في شمال الارض وجنوبها، فهى إذن علاقة تبادلية واضحة المعالم بشكل كبير، والتجربة الامريكية اثبتت صحتها فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية والجيوش الامريكية تكفل اسباب القوة والمنعة للاقتصاد الامريكي وتوفر له كافة ما يحتاج من مواد خام من خارج البلاد لا سيما النفط وجميعنا يذكر أن الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر هو صاحب خطة التدخل العسكري في الخليج العربي لحماية آبار النفط، حال اقتراب الاتحاد السوفيتي منها. والثابت أن أوضاع الاقتصاد الأمريكي لا تخفى على أحد فالولايات المتحدة الأمريكية مديونة للعالم الخارجي بنحو 20 تريليون دولار، فهل أنعكس ذلك على أوضاع الجيش الامريكي؟ مؤخرا أخبر السيناتور “جون ماكين” رئيس لجنه الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ “رايان مكارثى” مرشح ترامب لمنصب وكيل وزارة الدفاع ان الجيش الامريكي يواجه في الوقت الراهن أزمة، يشغل مكارثى حاليا منصب المدير التنفيذي لشركة “لوكهيد مارتن”. ويضيف صاحب المقال :”يبدو الجيش الأمريكي في طريقة إلى خسارة الكثير من الاشياء ما لم يقم الرئيس الامريكي بتعيين وزير للدفاع مطلع وقوي، مستعد إلى محاسبة جنرالاته والمطالبة بتغيير شامل، وان بقى الامر على حالة، سوف يخسر الجيش المعركة الأولى من حربه القادمة، وخلال القرن الواحد والعشرون ، قد لا يحصل الأمريكيون على فرصة للقيام بمعركة ثانية. هل انهيار أحوال الجيش الامريكي جزء من عموم مشهد الفوضى الذي يلف واشنطن اليوم؟ أمريكا تخترق من الروس لا يمكن للمرء في هذا المجال أن يوفر الحديث عن إشكالية كبرى وهي ما جري في الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة، ذلك أن مقدرة الروس على الاختراق السيبراني للاجهزة الامريكية والحصول على بيانات الديمقراطيين وفي المقدمة منهم “هيلاري كلينتون” قد زعزع اساسات الثقة لدى الرأى العام الامريكي في قدرة هذه البلاد على صون وحماية مستقبل أبناءها من هجمات روسيا الأضعف قدرة مادية وتكنولوجية وعسكرية في مواجهة الأمريكيين، القطب المنفرد بمقدرات العالم. عطفا على ذلك لقد بدأت تتكشف أمام أعين الاجيال الامريكية الشابة أن النظام الديمقراطي الامريكي هو نظام مصاب بعوار كبير، فالديمقراطية تباع على ارصفة المتبرعين، وهنا تصدق مقولة ديمقراطيات لمن يدفع أكثر، بل أن القوانين الاخيرة الصادرة في شأن تنظيم مسألة التبرعات، باتت تتيح المزيد من الفوضى، الامر الذي حدا بالرئيس كارتر لان يصف من يحكمون أمريكا اليوم بانهم جماعة من الاوليجاركية لا من السياسيين. هل تشومسكي صادق إلى حد بعيد وان رئاسة ترامب يمكن أن تكون بداية الانهيار الامريكي؟ ربما تكون حالة الفوضى والشلل في واشنطن هذه الايام عطفا على الصراع الحاد ما بين الرئيس والكونجرس دليل على ذلك، فخلال ستة شهر رأينا العشرات من القرارات التنفيذية، والتصريحات، والمذكرات الرئاسية المتضاربة والعديد من مراسيم العقوبات، ولا تزال مناصب عدة فارغة من مسؤوليها في إدارة الرجل. تفسد السمكة من رأسها، وكل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت… هل يكون هذا مصير الولايات المتحدة الامريكية بالفعل؟
مشاركة :