مسابقات الجمال تسلط الأضواء على وجه المرأة وقوامها الممشوق، وتتجاهل في أحيان كثيرة الصفات والمهارات المتعددة التي تمتلكها بعيدا عن قشرة المظهر الخارجي. وتتعرض مسابقات ملكات الجمال منذ السبعينات من القرن الماضي إلى انتقادات كثيرة من قبل الحركات النسوية، التي تنظر لهذه المسابقات على أنها تمتهن المرأة وتحط من كرامتها، بسبب عدم تشجيعها التنوع في صورة الجسم، وفرضها لائحة صارمة تحوّل أجساد المتباريات إلى نسخة طبق الأصل من قالب الجمال الذي تروّج له دون مراعاة لشخصياتهن الحقيقية وأدوارهن المتعددة في المجتمع. ورغم اتجاه المشرفين على مسابقات ملكات الجمال في السنوات الأخيرة إلى التركيز على شخصيات المتسابقات وثقافتهن ومستواهن العلمي، ودورهن في نشر الوعي الاجتماعي وجمع التبرعات للقضايا الإنسانية، وتحدثهن بعدد من اللغات، إلا أن الجمال الصارخ يظل الجانب الأقوى المسيطر والمسيّر لهذه المسابقات، فهو يؤثر تلقائيا على العقل الباطن للجمهور، ويجعله يختار ملكة جمال حسناء الوجه ومتواضعة العلم والثقافة، ولا يختار ملكة جمال واسعة العلم والثقافة ومتواضعة الجمال.كيرا الصباح: كان هدفي العمل الخيري من خلال سعيي للحصول على لقب ملكة الجمال ويطلق علماء النفس على هذا الأمر وصفا استدلاليا مفاده أن “ما هو جميل هو جيّد بالضرورة”، فالناس يفترضون دائما أن الشخص الذي وُهِبَ نعمة الجمال يمتلك نعمة التفكير العميق والثقافة العالية في جوانب أخرى من شخصيته. وفسّرت الباحثة الأميركية في مجال علم النفس الاجتماعي ليزا سلاتري ووكر ذلك بقولها إن صفة الجمال “واحدة من صفات عديدة تحدد مكانة ومنزلة من نتعامل معهن، ويمكن لنا أن نميّزها ونتعرف عليها في وقت مبكر للغاية من تعاملاتنا” مع من حولنا. غير أن ما يثير القلق هو معايير المؤسسات العالمية الخاصة بمسابقات الجمال التي دفعت البعض من الفتيات إلى اتباع حميات غذائية قاسية للوصول إلى ما تسوّق له على أنه “الجسم المثالي” عبر عملية تنحيف قاسية من أجل بلوغ ما يطلق عليه “القياس صفر”، مما حدا ببعض الجمعيات بالمناداة بالتوقف عن هذه المسابقات التي تشجّع على الهوس بالجمال الجسدي، وتحفز عددا من الأمراض كالشره العصبي وفقدان الشهية. حمية قاسية دعت ماري إيفنز يونغ، وهي كاتبة بريطانية عانت من اضطراب “فقدان الشهية العصبي” في عام 1992، إلى تخصيص يوم 6 مايو من كل عام كيوم عالمي لعدم التقيّد بالحمية الغذائية، وتسليط الضوء على الاختلاف في الأوزان ومفهوم الجسم المثالي، والتذكير بضحايا اضطرابات الطعام وعمليات التجميل، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على الحقائق المتعلقة بالحميات الغذائية والمفاهيم الخاطئة المرتبطة بها. واتخذت بلدة تشيفيلكوي الأرجنتينية في عام 2014 قرارا بمنع إقامة مسابقات ملكات الجمال، وبرّر مجلس البلدة بمنطقة بوينس آيرس، بأن هذه المسابقات تنطوي على تمييز بحق المرأة وتشجع على العنف ضدها. وشهد العالم العربي عدة مبادرات لكسر الصور النمطية عن معايير الجمال كانت آخرها “مسابقة ملكة جمال البدينات” التي أقيمت في تونس للعام الثاني، وفي عدة دول عربية أخرى، وهدفها نقل رسالة مختلفة عن الصورة النمطيّة لمعايير الجمال والتنديد بالعنف النفسي الذي تتعرض له المرأة البدينة، وللدعوة إلى التصالح مع الجسد وتقبل الآخر على شاكلته. وتحدثت الكاتبة الأميركية والمستشارة السياسية للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون نعومي وولف في كتابها “أسطورة الجمال: كيف تُستخدم صُوَرُ الجمال ضدَّ النساء” وليس لصالحهن.خولة البقلوطي: المرأة الجميلة ليست رخيصة بل عفيفة وشريفة وجمالها ليس للبيع ووفقا لوولف، فإن “أسطورة الجمال” هدفها تقويض الحريات والحقوق التي نالتْها المرأة في العقود الأخيرة، فالقيود الاجتماعية التي كانت تحاصر حياة المرأة صارت اليوم تحاصرُ وجهها وجسدها. وبناء على ذلك تطرح الكاتبة إشكاليتها الأبرز “اليوم، تبحث المرأة عن مكانتها بين أجساد النساء الأُخريات. أما الجيل الذي سبقنا من النساء، فكنَّ يبحثنَ عن مكانة المرأة في المجتمع”. جميلة الجميلات غير أن كل الأصوات التي انتقدت مسابقة “ملكة الجمال” منذ نسختها الأولى مع مؤسسها المليونير البريطاني الراحل إريك مورلي وحتى اليوم، لم تستطع إطفاء لحظة التتويج البراقة أو تبدّد رغبة النساء القوية في التربع على عرش جميلة الجميلات. وكشفت خولة البقلوطي (19 عاما)، ملكة جمال محافظة المنستير لسنة 2017، عن طموحها الكبير في نيل لقب ملكة جمال تونس، مؤكدة أن لديها من الإمكانيات ما يؤهلها لتتربع على هذا العرش. وقالت البقلوطي لـ”العرب”، “أنا متحصلة على شهادة الباكالوريا في الاقتصاد والتصرف وأمارس رياضة المبارزة بالسيف وتحصلت على العديد من الميداليات من بينها ذهبية في بطولة تونس 2015، ولم أشارك في هذه المسابقة لاستعراض جمالي الجسدي، بل لأنني أمتلك العديد من المهارات وأؤمن أولا وقبل كل شيء بالأدوار الإنسانية والاجتماعية والثقافية التي يمكن أن تؤديها ملكة الجمال في مجتمعها”. وأوضحت “ملكة الجمال ليست مجرد جسد جميل، وحتى وإن كانت في نظر البعض كذلك، فإنني أقول لهؤلاء إن المرأة الجميلة ليست رخيصة بل عفيفة وشريفة وجمالها ليس للترويج ولا للبيع ولا للشراء”. وعبّرت البقلوطي عن رغبتها في إيصال رسالة لكل النساء العربيات مفادها “كن حرات، كن سيدات أنفسكن، فأجسادكن وإن خلقت جميلة فهذه نعمة من الله فحافظن عليها، فالله جميل ويحب الجمال”. فيما ترى الممثلة كيرا الصباح وملكة جمال مصر سابقا، أن ملكة الجمال ليست مجرد وجه جميل وحسن الإطلالة والمظهر، بل حصولها على هذا اللقب يحمّلها مسؤولية كبيرة، ويجعلها في وضع حساس، يستدعي منها أن تحسب كل خطواتها مراعاة للجمهور الذي وثق فيها وتوجها بذلك العرش، ويعلق عليها الكثير من الآمال والانتظارات. وأوضحت الصباح أن مبادئ صاحبة التاج تتحكم بالدرجة الأولى فيما ستكون عليه مكانتها مستقبلا، فإما أن تحول جسدها إلى سلعة سهلة البيع والشراء، وإما أن تحوله إلى رمز يرفع من شأنها ومن شأن بنات جنسها من خلال ما ستقدمه من أعمال إنسانية وخيرية.أشرف سعد محمود: لا شك ولا جدال في أن مسابقات ملكات الجمال محرمة شرعا وعن تجربتها الشخصية قالت “كان هدفي الأول العمل الخيري من خلال سعيي للحصول على لقب ملكة جمال العرب، ورغم حبي الشديد للتمثيل، إلا أنني لم أخطط للدخول إلى ذلك من خلال بوابة مسابقة الجمال”. وأضافت الصباح “أثناء ذهابي للظهور في أحد البرامج التلفزيونية اقترح عليّ صديق تجربة تمثيل، وعند محاولتي تجسيد ذلك أعجب المنتج ريمون مقار بأدائي ورشحني للدكتور بيتر ميمي المخرج الذي ضمني إلى فريق مسلسل (الأب الروحي)، ولكن تبقى الموهبة وحسن الأداء هما الأساس لخوض غمار عالم التمثيل الساحر، وليس مجرد كوني ملكة جمال”. ولا يبدو أن بإمكان الفتيات اللاتي يمتلكن مظهرا غير سار للناظرين ومؤهلات علمية وثقافية كبيرة المشاركة في مسابقات الجمال، إلا أن البعض من المشرفين على هذه التظاهرات يرفضون الاعتراف بحقيقة أن الجاذبية الشكلية تمثل الصفة الأهم التي تحدد صاحبة التاج الذهبي. الهوس المرضي قالت فوزية العبيدي، رئيسة الجمعية الفنية والثقافية “تاج” لمحافظات المنستير وسوسة والقيروان، والمشرفة على تنظيم مسابقة ملكة جمال تونس في تصريحها لـ”العرب”، “لم يكن اختياري لرئاسة هذه الجمعية، وخاصة بعد 38 عاما قضيتها في العمل التربوي وتدريس اللغة الفرنسية اعتباطيا، بقدر ما كان قرارا مدروسا وموجّها، وغرضه أولا وقبل كل شيء إعداد وتكوين ملكات جمال قادرات على تقديم وجه ناصع عن المرأة التونسية الحسناء والأنيقة والمهذّبة والمثقفة والقادرة على تمثيل تونس في المحافل المحلية والدولية على أحسن وجه”. وأضافت العبيدي “مقاييس لجنة التحكيم في هذه المسابقة لا تعتمد بالأساس على جمال الجسم مهما كان فاتنا، بل تضع في عين الاعتبار عدة معايير أخرى، كالمستوى الثقافي ومدى قدرة المتسابقات على المساهمة في الأعمال الخيرية والمشاريع الإنسانية، وبهذا فإن ملكة الجمال لن تكون مجرد صورة (جميلة) نمطية، بل فاعلة ومؤثرة في مجتمعها بما تمتلكه من مؤهلات جمال خِلقية وخُلقية”. ولا يكمن الجمال الحقيقي فقط فيما يراه الناظر من خلال الشكل الخارجي، بل وأيضا في شخصية الإنسان وسلوكاته، إلا أن العديد من النساء أصبحن يسعين إلى تغيير أشكالهن لتتماشى مع معايير الجمال المتماثلة عالميا. وأرجع طارق بالحاج محمد، الباحث التونسي في علم الاجتماع، مثل هذا الأمر إلى ما سمّاه بـ”الهوس المرضي” بالجاذبية الشكلية، مشددا على أن الجمال مهما بلغ لا يمكن أن يعوّض عن المبادئ والأخلاق.فوزية العبيدي: مقاييس لجنة التحكيم لا تعتمد بالأساس على جمال الجسم مهما كان فاتنا وقال بالحاج محمد لـ”العرب”، “إننا نعيش في عصر صناعة الصورة بامتياز، بما في ذلك عصر صناعة الصورة النمطية للإنسان (المثالي)، إنه عصر تغيرت فيه العديد من القيم الاجتماعية والثقافية والذوقية وغلب عليه التنميط وقد شملت هذه التغيّرات مسألة مقاييس ومعايير الجمال عند المرأة إلى الحد الذي غلبت عليه مقاييس التشابه والمحاكاة والتسليع على قيم الفرادة والبساطة والتميّز والخصوصية وحتى الذوق السليم”. وأضاف “منذ بدأت (صناعة الجمال) في الظهور استحوذت النساء على نسبة 80 بالمئة من إجمالي عمليات التجميل مقارنة بالرجال، لذا فهن يعطين وزنا أكبر للمظهر الخارجي، إلى جانب رغبتهن في إرضاء الذكور ونيل إعجابهم بمظهرهن الجذاب، مما جعل ذلك مجالا خصبا للاستثمار الاقتصادي والإعلامي وحتى السياسي”. وأوضح بالحاج محمد أن “الظاهرة تعدت اللهفة على مساحيق التجميل وتقليعات الموضة وعروض الأزياء، وأصبحت هوسا بكل أنواع التدخل الجراحي التجميلي، مثل زرع الشعر وشفط الدهون وإزالة الندوب والبقع السوداء من الوجه وتكبير أو تصغير وشد الصدر..”. وأشار إلى أن “الظاهرة لم تعد تقتصر على نخبة معيّنة من النساء، بل تستحوذ على اهتمامات الجمهور النسائي العريض، مستغلة في ذلك الرغبة الأنثوية الجارفة في التشبّه بالمشاهير”. ويرى الباحث التونسي أن “أغلب النساء انحصرت اهتماماتهن في دائرة ضيّقة تبدأ من المظهر الخارجي وتنتهي إليه، إلى درجة ألغيت معها عقولهن وتفكيرهن وخصوصيتهن وفرادتهن، ودفعتهن إلى التشبه بنماذج وصور لا تشبههن أو لا تناسبهن، وأصبحت البعض منهن نسخا وصورا متطابقة، فأحيانا لا يمكن التفريق بين المغنية المشهورة والمدرسة والطبيبة وربة البيت”. وختم بالحاج محمد بقولة “ليس التجميل سوى عملية تطبيق لمفهوم الجمال، ومن خلال هذه العملية يرسم الإنسان قناعاته ويعكس ثقافته وأفكاره ويعبّر عن قضاياه، وليس مجرد تشبّه بصورة المشاهير التي تسوقها السينما ووسائل الإعلام وعروض الأزياء ومسابقات الجمال”.طارق بالحاج محمد: إننا نعيش في عصر صناعة الصورة النمطية للإنسان المثالي الحرام والحلال يلتبس أمر مسابقات ملكات الجمال عند المدارس الفقهية الدينية، وتجمع غالبيتها على رفضها، فيما يحرّم المتشددون من رجال الدين مسابقة ملكة الجمال، معتبرين الأمر جزءا من التعري والمتاجرة بجسد المرأة، إلا أن هناك بعض الأصوات المعتدلة التي تقبل باختيار ملكة الجمال ولكن ضمن شروط معيّنة، الأمر الذي فتح المجال لظهور مسابقة لملكة جمال المحجبات. ورفض الداعية الإسلامي المصري أشرف سعد محمود قبول هذه المسابقات قائلا “لا شك ولا جدال في أن مسابقات ملكات الجمال تعد فتنة ومحرمة شرعا لما يرتكب فيها وباسمها من موبقات وذنوب وكل ما نهى عنه ديننا الحنيف، كما تعد تقليدا أعمى للغرب الذي ابتدع مثل هذه المسابقات وسوّقها لنا”. وأضاف محمود “مثل هذه المسابقات لا يمكن أن تندرج، وبأي شكل من الأشكال، ضمن فكر حقوق الإنسان والحرية الشخصية، لأنها تمتهن جسد المرأة وتحولها إلى سلعة رخيصة تنتظر من يتفحصها بالعيون، وهذا الأمر يحط من مكانة المرأة المصونة ويجعلها مجرد جسد بلا كرامة”. واعتبر أن “مسابقات الجمال أشبه بما يحصل في سوق النخاسة وتجارة العبيد، إذ يتم تحويل المرأة إلى رق، فتتزيّن وتتعطّر وتُظهر مفاتن جسدها بصورة صارخة. وأوضح أن “المسؤولية تقع على ولي الأمر الذي يفترض أن يحافظ على عفّة ابنته ولا يعرضها على المشاهدين ليستمتعوا بجمالها ومفاتنها.. هذه المسابقات ضد عفّة المرأة وهي محرمة شرعا، لما تنطوي عليه من إظهار عورات النساء التي أمر الله بسترها”. صحافية تونسية
مشاركة :