الموقف من الإنسان في الشعر الشعبي الحديث (9 - 9)‬ - شعر

  • 10/4/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

هذا الموقف يتواصل مع الشاعر في نص آخر قام بإهدائه إلى «أمير الإنسانية»، كما يقول، وهو شخص بسيط اسمه عمر الطرقي على حد تعبير الشاعر: عمر سيرة عمر نصفه مدينة وآخره... ديرة عمر لا جيت أوصف أغلبه... أبحل بتفسيره! يميل الشاعر في هذا المقطع إلى تكبير الصورة التي كانت صغيرة في المقطع السابق، وكأن هذا الكلام استكمال لما سبق وإيذان بما سيأتي. والملاحظ في هذا النص الذي وجهه إلى عمر الطرقي الذي وصفه بـ «أمير الإنسانية»، كما في نص آخر وجهه الشاعر إلى مغترب عراقي اسمه فيصل أنه يريد البحث عن أقنعة لوجهه يختبئ وراءها للحديث عن أزمة الإنسانية في ذاته، ولعل هذه النصوص التي اعتمدها الشعراء الآخرون كحال فهد دوحان مع سمير الشمري أو ناجي العلي أو نصوص بدر التي أمامنا، إنما يريد هؤلاء الشعراء ممن ينتهجون هذا المنهج الشعري إيجاد حالة من المعادل الموضوعي وفي بعض الأحيان إيجاد أقنعة يلوذون خلفها للحديث بحرية وانطلاق، إما عن ذواتهم أو عن أزمة الإنسان بشكل عام في هذه الحياة: عمر أطفال شارعنا عمر لمعة بمدامعنا عمر صوت الأذان اللي تردد في جوامعنا .......... عمر ملح المكان وسكر الأرض وفضا العشاق والغيرة عمر حنطة فقارتنا عمر أبواب حارتنا تخرج ملامح عمر من معان مجردة كانت تدور في روح الشاعر لتملأ المكان والزوايا وترتسم في ملامح الأطفال والشوارع والحارة وصوت الأذان الذي يتردد في الجوامع، إنه ينتقل من قيم مجردة إلى رموز تملأ الأشياء وتستوطن المكان لقد تحول عمر ذلك الإنسان البسيط الجالس على هامش الحياة، إلى كل معاني الحب والعدل والتسامح في الإنسانية. وفي محاولة لفهم البعد الآخر والخفي في هذا الكلام، نقول أن الإنسان الحقيقي في نظر الشاعر هو ذلك الذي تسكنه الحياة في الوقت الذي لا يسكن في هذه الحياة. وبمعنى أشد وضوحاً نقول، إن الإنسان البسيط المعدم في هذه الدنيا يحمل من القيم الإنسانية النبيلة ما يستطيع أن يملأ الكون بها في حال لو أتيحت له الفرصة، وهذه إشارة إلى أنه كلما زاد التصاق الإنسان بالأرض كان أكثر إحساسا بها وبمن فوقها، من خلال «شوارعنا - جوامعنا - ملح المكان - حنطة - فقارتنا - حارتنا»، إذ إن كل هذه الرموز ما هي إلا إشارات تصب في هذا السياق. في نص آخر وجهه الشاعر إلى إنسان عراقي مغترب عن بلاده اسمه فيصل، يقول فيه: اكتب الممكن وحدق في غياب وجوه غيرك يمكن إنك تعرف أطراف الكلام لوين تودي اكتب انك بالحياة تكون ميّت هذا المقطع الوجيز المقتضب يحاول فيه الشاعر تسليط الضوء على ملامح الغربة في عيون المشردين عن ديارهم، وكيف يستحيل الرحيل عندهم إلى اغتراب وتتحول الغربة إلى موت وانحسار ناتج عن عدم إحساسهم بالأمان، وهو - أي الشاعر - يسعى في هذا المقطع إلى عكس صورة أخرى لملمح الإنسان في هذه الدنيا لكنها لم تخرج عن السياق المشبع بالحزن، غير أنه متشح بالموت، وهو عبء أثقل من التشرد الذي لمسناه في نصه الذي أهداه لـ «أمير الإنسانية عمر الطرقي» فهذا الشبح الموحش والمخيف يطل علينا في نص رابع يحمل اسم حاتم، يناجي الشاعر خياله بعد أن غَيّبَهُ الموت عن عالم الأحياء، وتحول إلى أشبه ما يكون بالكابوس في نظر الشاعر: وأذكر إني كل ما تشرق صباحاتي يكون الوضع قاتم أنتظر باص الصباح لمدرستنا أحسب أصحابي بموقفنا ولا ألقى دوم... حاتم وأذكر إني... من توفى صاحبي لليوم أكتب... وأنكسر... بي نلحظ على نصوص بدر صفوق التي عرضنا لها، محاولة المزج بين الموضوعية والذاتية، حيث تبدو ملامح تأثره بما يجري من حوله، وهذا له ارتباط بالموضوعية، بينما يسعى لعكس هذا التأثر من خلال ذاته الجامعة لهذه الأحاسيس وهذه المواقف، ومن ثم عجنها في هذا التناول الشعري لتخرج لنا بهذه الصورة، وكأن الموضوع يخص الشاعر أو كأن الشاعر هو الموضوع، إذ يدور الاثنان في دوامة المعاناة الإنسانية، فهذا ما شاهدناه عند حديثه عن عمر الطرقي أو فيصل، وفي هذا المقطع الخاص بحاتم، وهو حسب ما نفهم من كلام الشاعر بأنه صديق له وكان يقاسمه مقاعد الدراسة والانتظار الصباحي في موقف الحافلة الذي يأتي لحمل الطلاب إلى المدرسة كل صباح. يبدأ المشهد الشعري بتذكر الشاعر لأيامه الأولى التي قضاها في سالف أيامه «وأذكر إني» حيث يكون الخيال المحرك الأول لعاطفة الحنين والشعور بالفقد، وهو فقد الصاحب الذي غَيّبَهُ الموت عن عالم الأحياء، حيث حوّل الموت الشاعر إلى مستنـزف للشعر، يكتبه كل يوم، وفي كل مرة يكتب فيه هذا الشعور بالفقد يحس بأنه يتكسر من الداخل «أكتب... وأنكسر... بي»، إذ يتوافق الفعلان المضارعان الدالان على الاستمرار ليؤكدا ديمومة هذه الحالة الملازمة للشاعر. وهو بهذا التوظيف، وهو توظيف شعري واقع تحت هاجس الشعور بالحزن والموت والإحساس بمرارة الفقد، يؤكد الشاعر أن قيمة الإنسان الحقة هي تلك الكامنة في مدى إحساسه بعذابات الآخرين، وأن أجمل القصائد تلك التي يكتبها الشعراء لأناس فقدوا الحياة وأضحوا في عداد الأموات كما يميل لهذا الاعتقاد الشاعر الأميركي أدغار ألان بو.

مشاركة :