د. أحمد فؤاد باشا * اخترت هذه المقولة المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنواناً لمقالنا اليوم، لأنني أردت التحدث عن واحدة من أخطر المشكلات التي تهدد حياة الأفراد والمجتمعات والدول على حد سواء، فضلاً عن أنها من أهم المعوقات التي تقف حجر عثرة دون تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية بأقسامها الثلاثة التي حددها جمهور الفقهاء، وهي المقاصد الضرورية، والحاجيّة، والتحسينية، ويأتي في مقدمتها الحفاظ على الدين وحماية العقيدة، ذلك لأن الفقر جاء في الحديث الشريف مقترناً بالكفر، فربما تؤدي حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والدواء إلى الوقوع في براثن المنافقين، والتحول من الإسلام إلى الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر».وقال العلامة المناوي في «فيض القدير»: قرن الكفر بالفقر، لأنه قد يجر إليه، ولأنه يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وعلى التذلل لهم بما يدنس به عرضه، وعلى عدم الرضا بالقضاء، وذلك إن لم يكن كفراً فهو جارّ إليه، وهذا المعنى جاء أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: «كاد الفقر أن يكون كفراً».كذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الفقر، حيث روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من فتنة الفقر فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر».وقد صيغت تعريفات عديدة لمفهوم الفقر باعتباره ظاهرة عالمية لها أبعادها، الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها، لكنها تشترك جميعها تقريبا في أن الفقر يعني العجز عن إشباع الحاجات الأساسية أو الضرورية، سواء في ذلك الأفراد أو الشعوب، ويزداد الأمر سوءاً عندما تصل الأحوال إلى الفقر المدقع الذي بجانبه ثراء فاحش، بالأخص إذا كان الفقير هو الذي يسعى ويكدح، بينما يكون المترف هو المتبطل القاعد.وإن شئنا تصويراً واقعياً لمشكلة الفقر على مستوى العالم، فيكفي أن نشير إلى تصنيف البلدان إلى غنية متقدمة وفقيرة نامية أو متخلفة، ويقل الناتج المحلي الإجمالي لأفقر 48 دولة (تشكل ربع عدد بلدان العالم تقريباً) عن الثروة التي جمعها أغنى ثلاثة أشخاص في العالم، كما تشير الأرقام إلى أن ثلث سكان المجتمعات النامية يعيشون حالة من الفقر وصلت إلى أن نحو 800 مليون شخص منهم لا يحصلون على الطعام الذي يكفيهم، بينما يعاني حوالي 500 مليون بصورة مزمنة من سوء التغذية، ويموت حوالي 17 مليونا كل عام من أمراض لا شفاء منها، مع ملاحظة ارتفاع معدلات وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية وما يترتب عليها من آثار مدمرة، ناهيك عن حرمان الغالبية العظمى من جميع الحقوق الإنسانية التي قد تعينهم إذا ما أتيحت لهم على مواجهة الفقر، ويأتي في مقدمة هذه الحقوق حق التعليم والتربية والتنوير.ومن أسف أن نجد التقارير الاستراتيجية والإحصاءات تشير إلى تفشي ظاهرة الفقر في العالم العربي والإسلامي، رغم وجود الثروات الطبيعية الهائلة، والموارد الاقتصادية الكبيرة التي حبا الله بها هذه المجتمعات، وتنوعها بين الزراعة والصناعة والأيدي العاملة والعقول الإبداعية المفكرة، ولا شك في أن هذه الثروات والموارد يمكن أن تسهم بفعالية كبيرة في القضاء على الفقر وتحقيق مقصد الشريعة في عمارة الأرض وترقية الحياة عليها، ويقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه «الإسلام والطاقات المعطلة»: «... إن أمتنا الكبيرة تنتشر فوق بساط من الأرض الطيبة التقت فوقه مقاليد الدنيا، ومفاتيح العمران، وفي قبضة يدها رخاء العالم وشظفه، ونستطيع الجزم بأنها لو أحسنت استغلال ما تملك فإن سائر الأمم الأخرى تحتاج إليها، ولا تحتاج هي إلى أحد، فإن شرايين الحياة الاقتصادية للقارات الخمس تبدأ منا وتنتهي إلينا».ولقد استطاعت التجربة الإسلامية في صدر الإسلام وعصر ازدهاره الأول أن تتغلب على مشكلة الفقر، ويمكن الإفادة من هذه التجربة في عصرنا بوسائل عدة تبدأ بتصحيح المفاهيم المغلوطة وإعلاء قيمة العمل، وترشيد الاستهلاك، ومحاربة الأعمال المحرمة مثل الربا والاحتكار، فضلاً عن تفعيل دور الزكاة والأوقاف، والتمسك بالمنهج الإسلامي وفقه المقاصد الشرعية.. وصدق الله العظيم حيث يقول: «ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى».* النائب السابق لرئيس جامعة القاهرةafhasha@gmail.com
مشاركة :