المفكر عبدالكريم غلاب سعى إلى ترك أثر كبير في وطنه فتراكم تجربته في الكتابة والتأمل في الواقع أهله ليحمل صفة المؤرخ عن جدارة.العرب محمد بن امحمد العلوي [نُشر في 2017/08/26، العدد: 10734، ص(13)]عبدالكريم غلاب يترك أمثولته على خط التماس الدار البيضاء (المغرب)- في الرابع عشر من أغسطس الجاري توفي المؤرخ والمفكر المغربي عبدالكريم غلاب عن عمر قارب المئة عام. ذلك الرجل الذي عاش الحياة بكل ملابساتها وعايش أحداثا سياسية وفكرية واجتماعية وشمت ذاكرته فعمل على ترجمتها أدبيا من خلال السرد الروائي والقصصي. وأبى غلاب إلا أن يغالب الظروف والزمن ليترك أعمالا تجاوزت السبعين كتابا ويخلق مواقف سياسية صرفها عبر مؤسسات حزبه ومقالات صحافية جعلها عابرة للذكرى والذاكرة. البداية كانت نضالا مستمرا حمل غلاب عدة صفات كافح باستماتة من أجل تكريسها كذات وشخصية مغربية، فهو الصحافي والمؤرخ والسياسي المناضل والكاتب الروائي الذي كان له الفضل في إبراز هذا الجنس الأدبي بالمغرب، فتراكم تجربته في الكتابة والتأمل في الواقع والاندماج في تفاصيله الدقيقة أهّله ليحمل صفة المؤرخ عن جدارة. بين عامي1919 و2017 كانت رحلة غلاب الحياتية حافلة بالعديد من الأحداث والنجاحات والمطبات كأيّ شخصية عاصرت أحداثا كبرى بداية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، كانت مدينة فاس عاصمة العلم والسياسة آنذاك مسقط رأسه ومكانا ترعرع فيه داخل عائلة برجوازية مدينة انطبعت ذكراها في مخيّلته فاستثمرها كمكان وواقع لبعض شخوص رواياته. يقول غلاب إن مدينة فاس “تسكن قلبي ووجداني رغم أنني لم أعش فيها سوى 17 سنة، وكأنها سبعة قرون”. فقد عاش بفاس في كنف أبيه الذي كان تاجرا من عائلة محافظة متنورا ساهم في تأسيس المدارس الحرة حيث أن التعليم الرسمي كان تحت إشراف الحماية الفرنسية، فالوسط عائلي ساهم في تكوين الوعي الأولي لعبدالكريم غلاب سياسيا وفكريا وأكاديميا إذ أنه تابع دراسته بجامعة القرويين ثم التحق بالقاهرة حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي. في القاهرة انفتح غلاب على كل الأفكار ونسج علاقاته السياسية والفكرية وكان نشطا ومجتهدا، وحكى عن هذه المرحلة قائلا “كنت كل يوم بجامعة القاهرة وأحيائها أحس أنني شخص آخر أبني شخصيتي الفكرية والسياسية”، وفي القاهرة التقى بالزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الذي جاء فارا من الاستعمار الفرنسي لتونس، وقال غلاب “لقد التقيته وانعقدت بيننا صداقة متينة كنا نجلس معا ونفكر ونتناقش وكان رجلا عصاميا كبيرا”. ويحكي أن أستاذا أهدى له كتاب كليلة ودمنة ناصحا بقراءته، وأتى أستاذ آخر محذرا له من إتمامه وهو ما صوّر له الصراع بين القديم والجديد وبالطبع يقول غلاب “اخترت الأخير وقرأت مؤلف ابن المقفع وتبعته الآلاف من الكتب، وبالطبع الشيخ الذي حاول أن يمنعني من قراءة الكتاب لم يقرأ أيّ كتاب آخر فظل في عزلته يشتم الكتب إلا تلك ذات الورقة الصفراء”. والأهم يقول غلاب أن كليلة ودمنة فتح لي طريقا إلى المستقبل. وكواحد من أبناء جيله كان غلاب من بين الشباب الذين أخذتهم الحماسة في الدفاع عن استقلال ووحدة المغرب، فقد انخرط في صفوف الحركة الوطنية وكانت نتيجة نضاله السجن على يد المحتل الفرنسي وهو لم يبلغ السابعة عشرة من العمر. يقول “بعد خروجي من السجن احتضنني الوالد ومعتزا بي أيّما اعتزاز”، ليتابع نشاطه السياسي في مصر في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي للتعريف بقضية المغرب والمطالبة باستقلاله حيث ساهم مع زملائه المغاربة في تأسيس “رابطة الدفاع عن مراكش” سنة 1943. الروائي والصحافيالأديب والكاتب لم يتوان في انتقاد الوضع السياسي عبر عموده اليومي "مع الشعب" ذاكرته القوية القادرة على استرجاع تفاصيل الأحداث والشخوص أهلته ليجمع التأليف مع النضال السياسي والعمل الحكومي في فترات معينة من تاريخه في خيط ناظم بين السياسي والثقافي والفكري. وهو ما صنع منه مثقفا غزير الإنتاج معطاء ومتعدد المصادر والمعارف، تنفتح آفاق كتاباته على نوافذ وأجناس متعددة من الرواية والقصة والتاريخ والسياسة وغيرها. غلاب لا يفصل انكبابه على قراءة الواقع السياسي والاجتماعي لبلده عن الكتابة الروائية، فهو لا يضع خطوط فصل بين اهتماماته الفكرية والصحافية والسياسية والإبداعية فكل هذه الاهتمامات تنصهر في بوتقة واحدة لتصنع منه روائيا من طينة خاصة. وفي كلمة ألقاها بمناسبة تكريم غلاب في موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته الـ33 عام 2011 قال الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة محمد بن عيسى “إن آثار الأستاذ غلاب لامست أبرز وأصعب الفنون الإبداعية من رواية وقصة وسيرة ذاتية وتدوين رحلات، فهو ليس منتجا عاديا لتلك الأجناس الأدبية، ولكنه مؤصلها ومطورها ومجددها مستحقا صفة مؤسس الرواية المغربية الحديثة”. وتعد روايته “دفنا الماضي” حسبما يقول محمد بن عيسى “وثيقة وصفت بمهارة فنية عالية أطوار الصراع والانتقال في المجتمع المغربي وهو يحاول التخلص من أغلال الماضي وقيوده التي استحقت الدفن، لينخرط في الزمن الحاضر بمشاكله وتعقيداته وليعانق المستقبل بآماله وتطلعاته”. كان للعمل الصحافي حجر الرحى في حياة غلاب، والصحافة محور اهتماماته، فرغم أنه خدم في فترة من حياته السياسية من داخل مكاتب الوزارة إلا أنه لم يتخلّ عن عموده بجريدة العلم، وهنا يقول الكاتب والروائي مبارك ربيع إن “عبدالكريم غلاب يعد من دون شك أحد الصحافيين المغاربة المرموقين الذين ساهموا بقسط وافر في رسم المعالم الأولى للمنظومة الإعلامية الوطنية”. الكاتب والمحلل السياسي الموريتاني عبدالله ولد باه يعتبر أن “إحدى أبرز السمات التي تميز الكتابة الصحافية لدى عبدالكريم غلاب تتمثل في الالتزام بالموضوعية بالنظر إلى أنه لم يكن متأثرا بأيّ حال من الأحوال بالتجاذبات السياسية التي لم تجد طريقها إلى أعمدته ومقالاته”، مضيفا أن “السمة البارزة الأخرى التي طبعت أداءه الإعلامي هي عنصر الجرأة التي تبتعد عن معنى الإثارة”. وفي لقاء صحافي يتذكر غلاب فيقول “عندما كنت وزيرا مفوضا مديرا للإدارة العربية والشرق الأوسط بين عامي 1956 و1959 كنت مستمرا في كتاباتي النضالية، ومنها برنامج إذاعي كان يتناول تجاوزات الإدارة الفرنسية في الجزائر، ما دفع بمسؤولين فرنسيين رفيعي المستوى إلى القدوم لمقر الوزارة ومطالبة وزير الخارجية في تلك الفترة أحمد بلافريج بالتدخل من أجل ثنيي عن الكتابة، إلا أن جواب بلافريج كان مفاجئا لهم، حيث طالبني بالاستمرار فيما أقوم به”. وقد دخل غلاب ميدان الصحافة مبكرا في العام 1948 عندما تولى رئاسة تحرير مجلة “رسالة المغرب”، ثم رئيسا لتحرير جريدة “العلم”، وبعد ذلك مديرا لها في العام 1960 حتى يوليو 2004. وكان له دور كبير ومؤثر داخل النقابة الوطنية للصحافة من خلال تكريسه لحرية الرأي والتعبير وإلغاء الرقابة المسبقة على الصحافة. بين المثقف والسلطة كان لقدسية الكلمة واستقلاليتها عند غلاب سياج منيع لا يجب المس به أو تهديده، وهذا ما لم يراعه الأمين العام لحزب الاستقلال السابق عباس الفاسي في العام 2004 بمنعه العمود اليومي في جريدة العلم “مع الشعب”، وهو ركن كان يعالج من خلاله غلاب مشاكل وهموم المعيش اليومي للمواطنين المغاربة وقضاياهم الملحة بأسلوب يغلب عليه طابع السخرية، والقرار كان له الوقع الكبير على الرجل الذي انسحب غاضبا من الكتابة بالجريدة ومن العمل داخل الحزب. وقال مبررا قراره بالاستقالة أنه “بما أنني مارست عملي في ‘العلم’ مباشرة طيلة 55 عاما، وبدأت الكتابة فيها في الأعداد الأولى التي صدرت منها سنة 1946 بحرية كاملة وبتقدير كبير من الأمناء العامين ورؤساء الحزب السابقين، فإنني أقدم استقالتي من إدارة جريدة ‘العلم’ مكرها لا راضيا، وآسفا لا مغتبطا وغير مستريح الضمير، وإنه آن الأوان لأستقيل من هذا الحزب الذي أشعر وأنا أتركه وكأني أترك قطعة من قلبي، ولكن لا بأس في سبيل حرية الفكر وكرامة الضمير وصدق الممارسة”. وفي العام 1999 صدر له نص “الشيخوخة الظالمة” وكان خلاصة خبرته وتأملاته في الحياة والسياسة والفكر، ومنتقدا بتشريح دقيق ما كان له من مواقف وما اختاره من مسلك على المستوى الشخصي والعام. غالبا ما كانت العلاقة بين المثقف والسلطة ملتبسة وتمرّ بمطبات واستقطابات وصدامات، ولن يشذ غلاب عن هذه القاعدة خصوصا وأن لغته في الكتابة والنضال السياسي داخل حزب الاستقلال كانت أكثر انتقادا للأوضاع. وفي فترة ترؤس غلاب لاتحاد كتاب المغرب في العام 1968 والتي استمرت إلى غاية عام 1976 كان كثيرا ما يتصارع غلاب المثقف والمفكر مع غلاب السياسي المنتمي إلى حزب كان في المعارضة، والغلبة كانت آنذاك لمواقفه السياسية ما جعل السلطة تتضايق من خطابه ومواقفه وكتاباته. رأي في الإرهاب لم يتوان الأديب والكاتب في انتقاد الوضع السياسي عبر عموده اليومي “مع الشعب”، إذ كانت الديمقراطية والتعادلية مهمة مقدسة عنده يدافع عنها باستماتة ودون محاباة. ولذا جلبت عليه جرأته وقناعاته السياسية غضب السلطات فألقت القبض عليه واقتيد إلى السجن في أكتوبر 1969 بعدما تم تأويل إحدى مقالاته بأنها “إهانة للجيش” فحوكم على إثرها وهو يترأس اتحاد كتاب المغرب. تجربته مع السجن والنضال من أجل استقلال البلد والكلمة كوّنا عنده حسا بالتاريخ فكتب عن الحركة الوطنية وتعتبر رواية “سبعة أبواب” الصادرة سنة 1965 ترجمة لتجربة عبدالكريم غلاب مع الاعتقال السياسي في عهد الحماية الفرنسية، وهي من الإرهاصات الأولى للكتابة السجنية بالمغرب. يقول عبدالكريم غلاب في هذا الإطار إن “المراحل التي كتبتها من تاريخ المغرب لم أقصد فيها التذكير بالأحداث بقدر ما قصدت تفسير تاريخ المغرب وهي الإضافة المهمة، فقد يكون الجانب الحدثي موجودا في كتب أخرى لكن القراءة الجديدة هي الأهم كيف تفسر الحدث ولماذا كان بتلك الطريقة”.غلاب لا يفصل انكبابه على قراءة الواقع السياسي والاجتماعي لبلده عن الكتابة الروائية وأضاف غلاب أن “هناك مجلدان كبيران عن تاريخ الحركة الوطنية حاولت من خلالهما قراءة الدوافع الشخصية للمناضلين في القيام بأعمالهم وتحولهم من أناس عاديين إلى مساهمين في صناعة التاريخ”، والتاريخ عنده “دروس يجب قراءته والإفادة منه لتجاوز الأخطار وعدم تكرار الأخطاء”. ويعدّ غلاب من الأطر الأولى المؤسسة لوزارة الخارجية المغربية بعد استقلال المغرب تحت رئاسة أحمد بلافريج، وكغيره من الصحافيين الذين كانت لهم قدم راسخة داخل مكاتب التحرير في الجرائد الوطنية والذين تناوبوا على الوزارة التحق كذلك عبدالكريم غلاب بوزارة الإصلاح الإداري عام 1981 دون أن تنقطع صلته بجريدة “العلم” لسان حال حزب الاستقلال. مع تصاعد الظاهرة الإرهابية في العقود الأخيرة وبخبرته في النضال ضد المستعمر وحكمته التي صقلها من معاركه المستمرة لإرساء الديمقراطية بالمغرب كان له رأيه بعد الهجمات الإرهابية التي ضربت الدار البيضاء في مايو 2003 عندما قال إن “المغرب بريء من الإرهاب والشعب المغربي واع ويتحمل كامل مسؤوليته تجاه مستقبله ولا يمكن للمتطرفين أن يساهموا في إعاقة الذهاب نحو ذلك المستقبل”. وفي نظره أن الأمية والفقر لا يمكن أن يفرز إرهابا وإجراما من النوع الذي ضرب الدار البيضاء، معتبرا أن إهمال التوعية على النطاق الثقافي والسياسي والإعلامي تساهم في فوضى تؤدي إلى التطرف والإرهاب. فالعصر يقول غلاب، “تحفه فوضى فكرية عند شباب هم ضحاياها ووقودها في ذات الوقت ويجب أن نجد طرقا للتخفيف من آثار هذه الفوضى رغم أن القضاء عليها يتطلب وقتا وجهدا كبيرين”. وحول سؤال حول هل الإعلام ساهم بشكل أو آخر في إعطاء الجماعات المتطرفة مشروعية وجود لا تمتلكها؟ أجاب غلاب بأنه لا يعتقد أن الإعلام ساهم في هذا بإعطاء مشروعية ما لأيّ فوضوي، فهو يقوم بمهمته قدر ما تسمح به الظروف والتعددية والحرية التي يعرفها المغرب. لقد مرّ الموسوعي عبدالكريم غلاب من هنا تاركا أثرا كبيرا في وطنه ستستفيد منه لا محالة الأجيال القادمة، ومع كل المعيقات والمشاكل يؤكد قائلا أنه لا يمكن التراجع عن مكتسبات ناضل من أجلها الشعب عقودا جراء صدمة إرهابية.
مشاركة :