المدينة السعودية لا ترحب بالحياة أبداً وتشعر من يسكنها أنها «مجمعات للعمل» وليست مدناً ترسخ مفاهيم الحياة الاجتماعية كما ينبغي، وغالباً ما يكون الجانب الاجتماعي غائباً عن المشهد «المديني» في أيام العيد حاولت أن أعيش المدينة بكل ما فيها من صخب ومن تنوع، لكنني اصطدمت برتابة الحياة، وبروتينها في مدننا، في اليوم الأول كما هي العادة استقبال المهنئين بالعيد ومأدبة الغداء ثم النوم، ولا شيء بعد ذلك، ينفرط عقد العيد ولا يكاد يجمع إلا في العيد المقبل، ومدننا تبقى كما هي على رتابتها وروتينها تحتاج من يحرك الحياة فيها. مظاهر الفرح لا نكاد نراها في مدننا وهذا ناتج عن ثقافة متجذرة حوّلت حياتنا إلى مظاهر جامدة يصعب على الجيل الحالي تحملها وتقبلها، وهذا ما يجب أن أحذر منه بشدة، فما كان جيلنا يتحمله ويتقبله فإن الجيل الحالي والقادم لن يتحمل وقع الحياة الراكدة التي تعيشها المدينة. لا أريد أن أذكر القارئ العزيز بمقال نشر في إحدى الصحف المحلية قبل أكثر من 40 سنة كان عنوانه "أين تذهب هذا المساء في الرياض"، وأعتقد أنه عنوان مناسب للرياض وكل مدننا اليوم، والسبب أن مفهومنا للمدينة لم يتغير، فنحن ننظر لها على أنها "شوارع ومبانٍ" صرنا نفكر في تمدد المدينة وسهولة الحركة فيها على حساب تمدد الحياة وسهولة التواصل الاجتماعي وبناء مناخات ثقافية حقيقية، وهذه إشكالية معرفية يعاني منها تخطيط المدن وإدارة المدينة لدينا، فنحن نركز على التخطيط المادي العمراني، بينما المدينة أعمق من ذلك بكثير فهي ليست مكاناً للسكن والعمل فقط بل هي لممارسة الحياة والتفاعل معها بشكل عفوي ومقصود وهي مجال للتفاعل الاجتماعي والمعرفي كما هي لتبادل المنافع. أقول لكم بصراحة احترت هذا العيد، ماذا أعمل فقد وجدت نفسي وحيداً بعدما غادر جميع من أعرف الوطن وساحوا في الأرض هم وأسرهم، وصرت أمام المدينة هذه المرة في عراك وجهاً لوجه، فلا يوجد إلا المطاعم للتسمين والشوارع لركوب السيارة والجو حار لا يساعد على المشي وأصلاً لا يوجد أماكن للمشي إلا عن طريق العناء لها بالسيارة ونادرة، وهي أماكن غير مهيأة لوقوف المركبات. مع أنني ضد "أسطوانة الجو الحار" فقد رأيت مدناً قريبة منا جوها حار ورطب وأماكن المشاة مكتظة ومقاعد المقاهي تملأ الشوارع مساء، فالناس لديها الاستعداد لتحمل حرارة الجو لكنها غير مستعدة لتحمل غياب الروح عن المكان. المدينة السعودية لا ترحب بالحياة أبداً وتشعر من يسكنها أنها "مجمعات للعمل" وليست مدناً ترسخ مفاهيم الحياة الاجتماعية كما ينبغي، وغالباً ما يكون الجانب الاجتماعي غائباً عن المشهد "المديني" وكأنه مشهد سري، لن أقول إن الصورة الذهنية حول المدينة السعودية سلبية اجتماعياً، بل هي غائبة بالكامل، فلا أحد من الذين عاشوا في مدننا من الأجانب اطلع على هذا الجانب بعمق لأنه خارج المشهد العمراني وغالبا الصورة التي تنقل عن مجتمعنا مشوهة بسبب هذا الغياب الاجتماعي المديني. جوانب الحياة في المدينة السعودية مختصرة في "المولات" وفي السيارات الفارهة بينما حقيقة الحياة غائبة. دعوني أقول إن هذه الحالة الثقافية البائسة تحد من التفاعل المجتمعي/الثقافي حتى اننا لا نكاد نرى مشاركة فاعلة في النشاطات الثقافية خصوصاً مع الغياب الكامل للنشاطات الترفيهية فقد تعوّد أفراد المجتمع على العزلة وبناء المناخ الاجتماعي الخاص بهم. لذلك نرى أنه رغم تنظيم أكثر من 200 فعالية ترويحية في الرياض أيام العيد إلا أن كل هذه الفعاليات نكاد لا نشعر بها وهي لا توفر الحياة الطبيعية المدينية لأنها ببساطة مفتعلة ومقحمة على المدينة. المدن تحتاج إلى "الحياة العفوية" وأذكر أنني ذكرت مرة أن "المصادفة" المجتمعية التي تشكل العلاقات الإنسانية في المدن تكاد تكون معدومة في المدينة السعودية وربطت هذه الإشكالية بمستقبل "الرواية السعودية" فمخزون "الحكاية" سينفذ مع الوقت لأن مدننا لا تصنع حكايات جديدة، خصوصا مع هذه العزلة الغريبة التي يعيشها أفراد المجتمع. وأنا هنا لا أريد أن أربط هذه العزلة بالتشوه الفكري الذي يعيشه بعض شبابنا، وإن كنت متيقناً أن هناك رابطاً ما يجمع بين الانحراف الفكري والعزلة في المدينة، وهو الأمر الذي يجعلني أؤكد على أهمية "المصادفة" و "العفوية" التي يجب أن تتيحها المدينة لسكانها للتفاعل مع بعضهم البعض. على المستوى الشخصي لا ألتقي مع سعوديين بشكل عفوي وبسيط إلا في الخارج، ودائماً أقول "سبحان مغير النفوس"، وفي إجازة العيد التقيت بشباب سعوديين في مقهى في إحدى دول الجوار، كانوا في غاية الانفتاح وهم الذي بادروا بالحديث معي، وهذا لم يحدث معي في الرياض أبداً، رغم أنهم من الرياض. ابتسمت وقلت لهم أينكم في الرياض، قالوا لي في الاستراحات وذكر لي أحدهم أن له أربعة أخوة كل واحد منهم مرتبط باستراحة في مستواه العمري. بالطبع أنا لست ضد الاستراحات لكنني شعرت أنها ستكون سبباً في فصل الأجيال عن بعضها البعض، ومدرسة الحياة تتطلب هذا التواصل بين الأجيال، فما زالت كلمات أحد كبار السن ترن في أذني عندما انتقد التعليم المدرسي الحالي وقال إنه أخذ أبناءنا من مجالسنا التي كانوا يتعلمون فيها "علوم الرجال" ولم يتعلموا شيئاً يذكر في المدرسة. لا أعلم ماذا سيقول هذا المسن الآن بعد هذا التباعد المديني بين الأجيال. أعتقد أن تخطيط المدن بحاجة إلى مراجعة شاملة، فالقرارات المدينية التي تبناها أفراد المجتمع والشباب منهم على وجه الخصوص هي نتيجة لفشل التخطيط العمراني الذي أنفقت عليه الدولة مئات المليارات دون جدوى. الخلل من وجهة نظري يكمن في "الحلم المادي العمراني" لدى بعض المسؤولين الذين يجرون المدن وراء أحلامهم. هذه الأحلام قد تتحقق لكنها لا تصنع مدناً قابلة للحياة وهذه هي الإشكالية الكبيرة التي نعاني منها. لقد أجبرت المدينة بوضعها العمراني ومؤسساتها وثقافتها المجتمعية الشباب للذهاب إلى الخلاء لممارسة حياتهم خارج الحدود الضيقة التي تفرضها عليهم المدينة والنتيجة هذه العزلة الاجتماعية الخطيرة التي لا يعلم نتائجها المستقبلية إلا الله. أستطيع أن أربط ملاحظات العيد بما سمعته من أمير السياحة والآثار سلطان بن سلمان التي أكد فيها مراراً أننا يجب أن نعيش مدننا لا أن نسكنها فقط، وتبنى مشروع أتمنى أن يكتب له النجاح وهو "عيش السعودية" وأرى شخصياً أن هذا البرنامج يجب أن "يتآخى" مع التخطيط العمراني ويصبح جزءاً من ثقافة المخططين العمرانيين في المملكة، لأن مسألة "عيش المدينة" والتفاعل معها هي التي ستصنع العفوية التي تربط الناس بمدينتهم، فالذاكرة المدينية والشخصية العمرانية وروح المدينة لا تتحقق من بناء ناطحات السحاب والشوارع الواسعة السريعة، لأن الأصل هو من يعيش في هذه المدن ويلونها بشخصيته، لذلك قيل إن المدن كائنات حية تنمو وتكبر وتتغير وتتلون وتشيخ وتهرم وتموت، لأنها ببساطة المعادل المادي للإنسان.
مشاركة :