هكذا تمضي المفتتحات الكثيرة في السرديات العالمية لا تتشابه لكنها تؤكد تعدديتها في حركية السرد التي تحدد شكلها وموضوعها بدايةً كالوصف وهو الشائع في السرديات العالمية والعربية.العرب وارد بدر السالم [نُشر في 2018/01/11، العدد: 10866، ص(14)] ينشغل النقد الأدبي في السرديات المعاصرة على أكثر من إشارة في النص المطبوع، بدءاً من العنوان والغلاف والمقدمة والإهداء والتعريفات والهوامش الجانبية، لتوفير أكبر مساحة رائية للنص باعتباره كلاً واحداً لا يمكن أن يتجزأ، وأن إضافاته الهامشية تقع في جوهره سواء أكان الكاتب واعياً بها أم لا يقصدها، فالنص عبارة عن مجموعة علامات تتصل ببعضها البعض لتؤكد قيمته الفنية ككل، غير قابل لأن يكون وحدات سردية منفصلة متباعدة ولا تؤدي غرضها الفني والجمالي. ومن ضمن انشغالات النقد السردي الحديث معاينة الاستهلال السردي ونوعيته وأهميته في فتح النص الروائي الطويل، وكيف يمكن أن تكون الجملة الأولى عَتَبةً أو مدخلاً أو أيقونة بادِئة ممهدة لسرد مقبل تشير إلى أهميته الجمالية ومقدار صلتها بالوقائع السردية اللاحقة، فهل فعلاً الجملة الأولى تحدد مسارات العمل الروائي في مستقبل النص واستراتيجيته؟ وما هي وظيفتها الجمالية والفنية في نهاية الأمر؟ يقول ماركيز “بحثت عن الجملة الأولى المناسِبة لرواية خريف البطريرك طوال ثلاثة أشهر” وإنّ “أصعب ما في الرواية الفقرة الأولى.. في الفقرة الأولى تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية..”، وستبدو هذه الشهادة الصعبة دليلاً على أهمية المفتتح أو الاستهلال أو العتبة أو المدخل، أو السهم الأول النافذ إلى قلب الرواية، وربما هذا أمر مبالغ فيه بعض الشيء كما يرى البعض لكنه حقيقة يتوجب تصديقها، فالمفتتحات ليست سهلة كما يعتقدها البعض وتكمن صعوبتها في تهيئة المناخ اللازم للنص وبالتالي قوة جذب للقارئ والناقد، فهي خميرة من خمائر السرد الروائي وبادئة على غاية الأهمية عند افتتاح الكتابة. ولو تأملنا رواية “خريف البطريرك” التي استهلها ماركيز بجملة دقيقة “انقضّت العُقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الأسبوع فحطمت شِباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها وحرّكت الزمن الراكد برفيف أجنحتها..” سنجد أن هذه الإيحاءات الصادمة بشعريتها العالية تلخص صورة من صور موت الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية التي لم يغادرها ماركيز كثيرا في مجمل سردياته فوضع جوهر النص منذ السطور الأولى. يوازيها في قِدَم العَتبات الروائية ما جاء في رواية “المسخ” لكافكا “ما إن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول إلى حشرة عملاقة..” ونظن أن هذه اللافتة ما تزال معروفة في ضمير القراءة العالمي وهي من اللافتات التي لم تتكرر على مدى الكتابة السردية العامة، وفي حين نجد في “الغريب” لألبير كامو مفتتحاً عبثياً معروفاً “ماتت أمي اليوم أو ربما أمس لا أدري” لكنه شاعري عند نابوكوف في “لوليتا” “لوليتا ضوء حياتي، والنار المتوقدة في عروقي. لوليتا خطيئتي، وروحي . لو لي تا”. وهكذا تمضي المفتتحات الكثيرة في السرديات العالمية لا تتشابه لكنها تؤكد تعدديتها في حركية السرد التي تحدد شكلها وموضوعها بدايةً كالوصف وهو الشائع في السرديات العالمية والعربية، لمكان أو حالة معينة وهو المفتتح الدارج في السرديات الكلاسيكية، غير أن الحوار في أحيان كثيرة كاستهلال له قيمة مسرحية تقتنص لحظة الدخول إلى الجو السردي العام فيرسم مبدئياً الجو الروائي المقبل، وهناك صيغة مفتتح التساؤل الذي يبعث على الفضول، لكن ثمة استهلالات ومفتتحات ذات جملة تاريخية أو جغرافية وربما حتى عسكرية، بل هناك روايات تبدأ بالترقيم أو العدد وهي ربما فذلكة شكلية لتحدد أيقونية النص وترسم علاماته فإما أن تكون غامضة أو مشوقة أو معلوماتية، وهذا أمر صار من الشائع بين الكتابات الكثيرة التي نطالعها دائماً. كاتب عراقيوارد بدر السالم
مشاركة :