كمدخل الى عالم الشاعرة ظمياء ملكشاهي... المرعب والشفيف في آن واحد، لا بد أن يستوقفنا عنوان هذه المجموعة «تراتيل فيلية». ففي معاجم اللغة يذكر أن أصل كلمة تراتيل هو عربي ومعناه تحسين الصوت وتخفيضه عند القراءة، وهو ما يشير الى قدسية هذه التراتيل لدى الشاعرة وارتباطها بكرديتها الفيلية أيضا وما تحمله هذه الكلمة من جذور ضاربة في تاريخ الألم والمعاناة. فهي جمعت بين أب كردي وأم عربية وضاعت بين هويتين لا تطغى إحداهما على الأخرى. اعتمدت المجموعة كلها على ثلاثة محاور رئيسية تتفرع منها عناوين كثيرة أولها الغربة وثانيها الحب متمثلا بالرجل وثالثهما الفراق. منذ الوهلة الأولى نلتقي مع الفجيعة والألم والاغتراب ونحن نقرأ الإهداء: «أهدي تراتيلي هذه الى عشقي الأول... العراق العظيم الحبيب الى أهلي الفيليين الأحرار والى أخي المغيب ضياء الدين ملكشاهي». هنا يتضح جليا معاناة الشاعرة في تشتتها ومحاولة طمس هويتها وحبها الكبير للعراق وتمسكها بهذا العشق الأزلي متجسدا بصورة الأخ المغيب من قبل نظام صدام المقبور في تلك الحقبة المرعبة، التي تركت أخاديد كثيرة في وجدان الشاعرة وكأنه إعلان عن البحث عنه. لقد أنشدت تراتيلها بحب مدوٍ رغم قدسية تلك التراتيل فكانت صوتا وصدى لكل مايجول في خواطرها من ذكريات أليمة. في أول قصيدة في المجموعة يطالعنا عنوان وامض«فيلي أنا»، لقد قدمت كلمة «فيلي» على ذاتها لأنه المحور في كل هذه المجموعة والرمز والقضية ما يجعلنا نستيقن بعطائها الذي ينبعث من نفس نقية اختبرت الألم الممض بعدها جاءت كلمة «أنا»، التي ذكرت في النص لأكثر من مرة تأكيدا على فيليتها وانتمائها المقرون بالفجيعة. ثم تتوالى تباعا النصوص التي تبدأ بالهذيان الجميل في قصيدة «هذيان»: كان يعدو مسرعا... يحمل فرحه الغامر... يعدو مسرعا يحمل فرحه الغامر... كأنها صرخة للحب والجمال والحياة التي لم ينعم بها أي «كردي فيلي»، فالخوف يلاحقه والجدران العالية تنتظر موته المحتم... داخل أروقة السجون ومتاهات التعذيب. وتتوالى الصور بين حب وحرب وملاحقة ووهم جميل واستفاقة وواقع ممض، ثم تكتب: أتعكز عليك لأكتب هذا الخطاب الموجه الى الآخر في كل تراتيلها تارة يكون للحبيب المسخ الذي ظل لصيقا بذاكرتها وتارة يكون للعام الذي لاتعرفه غير أنها تنتمي إليه الكردي المغيب أخا وأبا وحبيبا... وأحيانا الى رموز ظلامية كانت تملي إرادتها على المستضعفين وتارة تخاطب العراق عشقها الكبير وفقراءه ونخلته ونهريه وسيابه وصغاره وزهوره وعبقه الدافق في روحها شريانا للحب والحياة. ويطالعنا نص آخر في قصيدة «معلقتي» معلقتي سأكتبها... أعلقها على جدران أحزاني... في هذه القصيدة تصلب كل ماتحب على حيطان ذاكرتها من مشاوير لم تذهب إليها، وجوه من تحب، أسماكها الميتة. محفظة أخيها، البحر، صورة رجل الأمن وشاربه الكريه وأنفاسه البشعة، في إشارة منها الى كل ماتعرضت له النساء الفيليات من اعتداء واغتصاب وتهجير قسري ضمن أحداث دامية. المجموعة تحمل الكثير من الألم الممض والترحال في اكثر من وطن تسجله الشاعرة في مسلتها الخاصة التي اختصرت بعض معالمها وصفاتها. لذا جديربنا أن نشيد بروحها المقاتلة فمازالت تمنحنا تراتيلها الحزينة وتهدينا صورها المكتنزة بالحب والغربة والطفولة. * شاعر وناقد عراقي
مشاركة :