بحثتُ في بعض الدول الأوربية المتقدمة، عن نموذج القرية التي أحملها في مخيلتي، وربما رسختها قراءة الروايات ومشاهدة الأفلام السينمائية، فلم أعثر على شيء يشبه ما اختزنه ذهني من صورة ومشاهد حول القرية. فقد اختفت الأكواخ الخشبية أو الحجرية، وما فيها من أفران الطبخ والخبز، واختفى كذلك منظر القروي الفلاح بهيئته وملابسه، الذي يفلح الأرض بيديه أو باستخدام عربة حرث يجرها ثور أو حصان. ودهشت عندما مررت بقرى أعرف اسمها من خلال الروايات، فوجدتها تشبه المدينة في ملامح كثيرة، إذ حلت المباني الخرسانية مكان الخشبية والحجرية، وأنيرت الشوارع والمنازل بالكهرباء، بل وحوت القرية مجمعاً تجارياً وأسواقاً لبيع المواد الغذائية والخضراوات، وكذلك محطات البنزين والساحات والمدارس الحديثة والسيارات الجديدة والمطاعم والمقاهي والبنوك..الخ وهكذا اقتربت القرية من المدينة، لتصبح أشبه بمدينة صغيرة، فيها كل وسائل الراحة من تكييف وتدفئة وأجهزة استهلاكية، واختفى الفلاحون وحلت مكانهم آلات زراعية متطورة بما يسمى ميكنة الزراعة، كما أصبحت وسائل الاتصال والتكنولوجيا من الضروريات. وهكذا تلاشت الفروق بين الريف والمدينة تقريباً، وتلاشت معها الصورة الجمالية للقرية في ذهني، ولكن عقلي فضل الاحتفاظ بصورة القرية التقليدية بما يشبه النوستالجيا، وبحثت كثيراً في وسائل الانترنت عن نموذج القرية الذي أعرفه، فلم أجده في الدول المتقدمة، لكن الروايات الكلاسيكية والأفلام السينمائية، التي صورت القرية والريف وانطبعت هذه الصورة في ذهني، هذه الروايات ما زالت موجودة في مكتبتي ولا يمكن تغييرها أو إعادة كتابتها، ولكي أستعيد هذه الصورة الجمالية الرومانسية أجدد قراءة هذه الروايات. لكن التساؤل الملح هو: هل تغيرت ثقافة القرية؟ أي العادات والسلوك والقيم والنتاج المادي والمعنوي في الريف، أو ما يسمى بالثقافة السائدة آنذاك، وهل ظلت هناك بقايا من الثقافة القروية؟ أم أن الثقافة نتاج تطور الواقع والتطور العلمي والتكنولوجي، وأيضاً تطور قوى انتاج وعلاقات انتاج؟ والسؤال الأهم: هل الثقافة قابلة للتقدم والتراجع؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في المقال المقبل. osbohatw@gmail.com
مشاركة :