في تسعينات القرن الماضي، استضافتني محطة تونسية مع ضيفين آخرين، وكان اللقاء مخصصاً للحديث عن الثقافة وهمومها، وعلق أحد الضيوف على المشهد الثقافي ووصفه بالتراجع، بل وأكد أن الثقافة تراجعت بسبب سيطرة جماعات الإسلام السياسي. وكان ردي عليه: أن الثقافة لا تتراجع إطلاقاً لأنها تراكمية، وهناك نوعان رئيسيان في ثقافة المجتمعات، هناك ثقافة سائدة نلمسها في وسائل الإعلام الرسمية وفي الشارع أي بالمظهر الواضح لنا، وقد تكون هذه الثقافة السائدة متقدمة ومتحضرة وقد تكون متخلفة، وهي انعكاس للوضع الآني سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وفي مقابل هذه الثقافة السائدة هناك ثقافة بل ثقافات أخرى بالمجتمع الواحد نستطيع أن نطلق عليها مجازاً الثقافة المتوارية، أي غير الملموسة كمظهر عام، والثقافتان السائدة والمتوارية يتبادلان وضعهما أو مظهرهما العام، في أزمان مختلفة وظروف مختلفة في نفس البقعة المكانية حسب الظروف التي ذكرناها سابقاً. فعلى سبيل المثال قد يساهم الحكم الدكتاتوري والمستند على الدين، وغياب الديموقراطية وتداول السلطة في تخلف الثقافة، بينما نجد أن الدولة المدنية الحرة والديموقراطية أكثر رقياً. وبالطبع فإن الثقافة لا تنحصر بالتجليات الإبداعية فيها، ولكنها تشمل السلوك والأنظمة وقوة القانون العادل، يساندها التعليم والمناهج المتطورة والإنفاق على البحث العلمي، لكن حتى هذه التجليات الإبداعية مثل المسرح والفنون والآداب، تتخلف وتتقدم كمظهر عام وسائد، وهي انعكاس للثقافة السائدة، وتتوارى الفنون والآداب الأكثر رقياً ولكنها لا تختفي أو تنتهي. وقد لاحظنا نعي البعض لفترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، على اعتبار أنها فترة متقدمة عن الوقت الحالي، بما فيها الفنون والآداب وحتى الرياضة، وفي واقع الحال هذا رأي غير صحيح، فالواقع يتقدم والتكنولوجيا تتطور وهذا ينعكس على الوعي، لكن ما يميز تلك الفترة هو مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني، وكذا التعليم والمناهج واهتمام الدولة بالثقافة وتجلياتها، وحتى النوادي الرياضية كان يديرها رجال مخلصون وطنيون، وكان الوزراء ونواب المجلس رجال دولة يعتمد عليهم، وكان الفساد أقل وغير ظاهر والسلوك الاستهلاكي أقل، وكانت الديموقراطية ناشئة وصاعدة نسبياً، كما أن توظيف الثروة كان لمصلحة المواطنين من خلال سياسة التثمين وغيرها من التفاصيل. لكن المخلصين ما زالوا موجودين، والمبدعون أكثر منهم في تلك الفترة، وازداد وعي الناس وزاد عدد المتعلمين تعليماً عالياً، لكن الوضع السياسي والاجتماعي يطمس وجودهم، ويتولى مكانهم الأقل كفاءة بسبب الفساد والواسطة، واختفى مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، وأصبح التوزير ونيابة الأمة فرصة للتكسب، وانحسرت العدالة الاجتماعية، فاتسعت الفوارق الطبقية في المجتمع، وتراجعت الصحافة الحرة وفقد المواطن حقوقه في حرية الرأي والتعبير والاطلاع. خلاصة الموضوع أن البنى التحتية تنعكس على البنى الفوقية، وقد تتبادل الثقافات في الظهور والسيادة، ولا يعني ذلك أن واحدة تنهي الأخرى بل تطمسها وتخفيها، فالأكثر وعياً ثقافياً يزداد وعياً، وصاحب الثقافة المتخلفة يتأثر بمنجزات الواقع، ويضطر للتعامل مع معطياته. osbohatw@gmail.com
مشاركة :