الديمقراطية وحدها قد لا تمثل إكسير الحياة على أنقاض النظم المتسلطة، إن لم تقرن بالرفاه الاجتماعي وتكافئ الفرص واحترام القانون وسلامة المحيط البيئي. العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/09/27، العدد: 10764، ص(4)] جاءت الثورة في تونس ولم تأت بما يشتهيه أبناؤها، ينطبق هذا الحال على الأقل على أول جيل ولد بالتزامن مع الأحداث التي كانت تشهدها البلاد قبل سبع سنوات، من اضطرابات اجتماعية وانفلات أمني في الشوارع وما رافقها من سقوط للمئات من الضحايا المحتجّين. يقول التونسيون اليوم إن مواليد الثورة وحظر التجوال الذين استقبلتهم المدارس الابتدائية في سنتهم الأولى هذا العام، لم يكونوا على قدر كبير من الحظ قياسا إلى سقف الانتظارات والأحلام التي راودت آباءهم قبل سنوات من أجل مستقبل أفضل لتونس الجديدة. بل على العكس من كل ذلك جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فعدى الحريات العامة لم يرتق الوضع المعيشي في تونس حتى الآن إلى تضحيات المحتجّين ضد احتكار السلطة والثروة والتفاوت الاجتماعي، فما هو بادي للعيان أن الأمور لا تتغير وهي في الكثير من القطاعات تسير عكس الزمن، ولا سيما في قطاعيي التعليم والصحة والإدارة والخدمات عموما. الحقيقة الثابتة أن نظام الحكم قد تغيّر في تونس، ولو أن النظام السياسي المعتمد (مختلط برلماني- رئاسي) خلق الكثير من المشاكل في توزيع السلط وإدارة الدولة، ولكن ما لا يمكن التغافل عنه أيضا أن الثورة الحقيقية التي يفترض أن تلامس حياة الناس فهي لم تبدأ بعد رغم مرور نحو سبع سنوات من الترقب. قبل عقود طويلة سعت دولة الاستقلال في سنواتها الأولى بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي في خمسينات القرن الماضي، وفي ظل الافتقاد إلى موارد طبيعية حقيقية مقارنة بدول الجوار، إلى بناء نموذج مجتمعي تونسي حديث يقوم على صناعة رأس مال بشري ذي كفاءة عالية وتحديث المجتمع. ومع كل ما تضمّنته تلك التجربة من هنات في تطبيقاتها إلا أنها نجحت إلى حد ما في ترسيخ طابع مجتمعي تونسي مميز ومختلف في فضائه العربي، ركّز بشكل خاص على تحرير المرأة وتعميم التعليم المجاني، إلى جانب الخدمات الصحية وضبط النمو السكاني المتسارع عبر سياسة تحديد النسل، واحتواء المجتمع القبلي مقابل إعلاء سلطة الدولة الحديثة. ربما كانت أبرز الأخطاء المتوارثة لدى الحكومات ما بعد الاستقلال أنها ظلت تتباهى بتلك السياسات الأولى دون أن تكون لها الجرأة على تصحيح بعضها وتطويرها بشكل يحدّ من التفاوت بين الجهات وينهض بالبنية التحتية للمستشفيات العمومية المتهالكة والمدارس في المناطق النائية، وتوفير الحدّ الأدنى من أسباب الحياة الكريمة. كان يتعيّن على الطبقة السياسية المؤمنة فعلا بالديمقراطية والإصلاح أن تكون لها أولويات في تدارك كل ما فات. بدل ذلك جاء الجيل الأول للثورة ليدفع ثمن تقاعس هؤلاء الساسة في بدء الإصلاحات، والنتيجة أن الآلاف من هذا الجيل الذي ولد أغلبه في مستشفيات تفتقد إلى معايير الصحة العالمية، اضطروا بعد سنوات للبقاء في ديارهم لأن الكثير من المدارس التونسية فتحت أبوابها العام الحالي بنقص حاد في عدد المعلمين، مع فرار الكثير منهم إلى القطاع الخاص أو تعاقدهم مع مؤسسات خارج الوطن. فالهجرة السرية التي كانت حتى وقت قريب حلا للنسبة الأعلى من العاطلين اليائسين من الشباب، باتت اليوم كذلك حلما يدفع الكوادر التونسية إلى محاولة النجاة بأنفسهم وفق برامج مقنّنة نحو دول تقدّم آفاقا أرحب لطموحاتهم، من أجل تحسين مستوى معيشتهم مع توفر محيط يستجيب للمعايير البيئية الدولية. ومن الحقائق المؤلمة في الديمقراطية الناشئة أن نحو 1800 من الأساتذة الجامعيين قد غادروا البلاد فعلا من بينهم 800 العام الحالي بحثا عن فرص أفضل خارج تونس، الأمر الذي أدّى إلى إلغاء عدة تخصصات في العلوم والهندسة والطب بسبب الافتقاد إلى العدد الكافي من الكوادر. وفي المقابل فإن تونس وبسبب محدودية إمكانياتها فهي ليست مصنّفة كوجهة للهجرة لتعويض هذا النقص، ما يعني أن مستقبلا مجهولا قد يكون في انتظار نسبة كبيرة من الناشئين من جيل الثورة. والوضع قد يزداد سوءا لهذه الطبقة الوسطى على المدى المنظور لجهة أن العملة المحلية تعاني من انهيار مستمر مقابل العملات الدولية والحال أن المرتب الذي تقدمه الدولة في أفضل الحالات (ألفي دينار في المعدل حوالي 813 دولارا) لا يمكن أن يضمن حياة مقبولة لهذه الفئة التي ضحت لسنوات طويلة في التكوين في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة. نفهم من ذلك أن الديمقراطية وحدها قد لا تمثل إكسير الحياة على أنقاض النظم المتسلطة، إن لم تقرن بالرفاه الاجتماعي وتكافئ الفرص واحترام القانون وسلامة المحيط البيئي. وهذا كله لا يزال موضع شك في تونس. في التقدير العام لا يجب أن تتحوّل الثورة إلى “صك غفران” لكل الطامعين في السلطة من معارضي الأنظمة السابقة للثورة. وربما وجب في هذا السياق الاتعاظ من تجارب الدول القريبة التي رسّخت باسم الثورة معادلة “الدولة الغنية والشعب الفقير”. فإذا لم تكن الثورة في خدمة الشعب، فما الذي يبرر الاستمرار في بيع الأوهام للناس؟ الثورة في حد ذاتها ليست قدرا محتوما. كاتب تونسيطارق القيزاني
مشاركة :