وجع الرأس يأتي دائما من تونس بقلم: طارق القيزاني

  • 8/25/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لماذا مصادرة حق التونسيين اليوم في أن يطرقوا باب النقاش في أي من مسائل الدين والحياة التي تخصهم. زمن المركز والخلافة واحتكار الرأي في المسائل الدينية والافتاء انتهى.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/08/25، العدد: 10733، ص(6)] شيء من أجواء فترة الثلاثينات من القرن الماضي يخيّم على تونس وما جاورها في المنطقة العربية. فقبل عقود طويلة كانت حملة الإهانات والسباب نفسها تكال إلى مفكري تونس وسياسييها وفي مقدمتهم المصلح الطاهر الحداد، صاحب كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، ومن بعده الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. كانت أفكار الحداد التحديثية الجريئة في ما يرتبط بتحرير المرأة كفيلة وحدها بأن تزلزل الأرض من تحت المعابد الدينية وتدفع كبار الشيوخ عنوة إلى التمحيص في النصوص الدينية والقبول في نهاية المطاف بنزعة التجديد لما فيه خير للمجتمع العربي والإسلامي، فالدين والكتب السماوية جاءت لترسم طريق الخلاص والحياة الكريمة للبشرية وليس لحياة الخنوع والمهانة. تقوم أفكار الحداد في جوهرها على أن التطور الطبيعي للحياة الذي أفضى إلى إلغاء العبودية وتملك الجواري، كان لا بد أن ينتهي أيضا إلى مراجعة الفهم الديني الشائع لإطلاق يد الرجل في الطلاق كيفما اتفق، ومن ثم رد الحقوق الشرعية التي أتى بها الإسلام كاملة إلى أصحابها ومنها حق المرأة في اختيار الزوج وحق التملك الشخصي وأهلية التصرف في أموالها وغيرها من الحقوق. وكان لا بد أيضا من أن تتحول تلك المراجعات مع كل الصخب الذي رافقها انطلاقا من المؤسسة الدينية التقليدية داخل تونس وحتى خارجها في المشرق العربي إلى لبنات أولى لبناء المجتمع التونسي الحديث بعد نحو ربع قرن من صدور الكتاب الثوري في العام 1930. من هناك نال الحبيب بورقيبة، مؤسس دولة الاستقلال ومحرر المرأة، حصته أيضا من الحملات مع وضعه في بدايات التأسيس لتونس الحديثة، مجلة (قانون) الأحوال الشخصية التي رسخت أفكار الحداد ومنحت حقوقا واسعة للمرأة وحافظة لكرامتها، من بينها الحق في الطلاق والقطع مع قوامة الرجل ومنع تعدد الزوجات وتجريم الزواج العرفي. كانت المجلة كافية لأن تربك الكثير من الدول العربية وأن تحدث إحراجا لدولة المركز مصر وجامعها الأزهري بكل ما يضمه من كبار العلماء بجانب المفكرين الكبار المجددين والمصلحين في مصر وفي مقدمتهم طه حسين وسلامة موسى. لكن ما يحصل في مصر حول المسائل الخلافية الدينية لا يسير دائما بنفس وتيرة التطور في تونس. هناك فارق كبير في السرعات يزداد اتساعا مع مرور الزمن. فبينما تم الحسم في تونس منذ عقود في مسائل ترتبط بمؤسسة الزواج والعلاقات بين الزوجين وحقوق المرأة الاجتماعية فإن الجدل في مصر لا يزال على حاله، مثلا في ما يتعلق بالطلاق البدعي أو الشفهي. والآن تستعد تونس للنظر أبعد من ذلك في مسائل المساواة التامة في الميراث بين الجنسين وحق المرأة في الزواج من غير المسلم في علاقة دائمة بما تمليه احتياجات الواقع الاجتماعي في تونس وما تتيحه مقاصد الشريعة الحقيقية والقوانين الوضعية، ذلك أن مصادر التشريع في تونس باعتبارها أرضا لحضارات مختلفة، تقوم في جزء كبير منها على الشريعة الإسلامية بجانب القوانين الوضعية الرومانية والأوروبية والفرنسية. وبغض النظر عن مدى جدية الطرح الذي تقدم به الرئيس الباجي قائد السبسي حول الميراث وحق المرأة في الزواج بغير المسلم في مثل هذا التوقيت وما إذا كان فعلا مغلفا بسياقات سياسية أم لا، فإن ردود الأفعال الخارجية المتلاحقة تكشف، حقيقة، عما يخالج الكثيرين من رجال الدين و”الكهنة” وحتى جزء من النخبة الليبرالية العربية من أفكار ومشاعر إزاء تونس، يخرج كل ذلك عن إطار التفاعل الفكري والفقهي وباب الاجتهاد إلى شيء من السخط والنقمة. حتى وقت قريب كان من بين هؤلاء، من الدعاة المتشددين، دور دعائي بارز في محاولات الانحراف بتونس عن هويتها وما راكمته من تحديث لمجتمعها على مدى عقود طويلة مكن من تعزيز أسس الدولة المدنية. ربما لأخطاء تاريخية حظي بعضهم بفرصة تصفية حساباته الفكرية والعقائدية مع تونس على أرضها عندما كانت في عهدة الإخوان، قبل أن ترتد عليه السهام. بالنسبة إلى حديث السبسي قد لا يعدو في نظر منتقديه مجرد فرقعة وكلام في الهواء لكنه في النهاية لا يخرج عن إطار النقاش الفكري والثقافي الذي تعودت عليه تونس منذ القرن التاسع عشر، في بدايات الإصلاح وبناء المؤسسات الحديثة خارج عباءة المماليك والباب العالي. فلماذا إذا مصادرة حق التونسيين اليوم في أن يطرقوا باب النقاش في أي من مسائل الدين والحياة التي تخصهم. فزمن المركز والخلافة واحتكار الرأي في المسائل الدينية والافتاء انتهى عمليا منذ أكثر من قرن من الزمان. وفي ظل تعميم القوانين المدنية فإن الفتاوى الدينية الإقليمية وتلك العابرة للقارات لم يعد لها أي إلزامية بل هي تتعارض مع الأعراف الدولية وسيادة الدول. وبالنهاية وكما ذكرت دار الإفتاء بتونس، فإن أهل مكة أدرى بشعابها. وفي الواقع فإن كل هذا الذي يصدر عن تونس لم يعد يقبل في الخارج، في سياق ضرورة التحديث وتطوير القراءات والنظر إلى احتياجات المجتمع، وإنما أصبح ينظر له كوجع رأس وبعبع يطل برأسه من حين لآخر ليقض مضجع الرتابة والسكينة في المنطقة. وتونس في الحقيقة منذ فترة طويلة تثير وجع الرأس، كان لها السبق في إرغام السلطة الحاكمة زمن البايات في اعتماد دستور ينظم علاقة السلطة بالرعية وهو الأول في المنطقة العربية عام 1861. كما كان لها السبق في نفض الغبار عن المرأة بمدونة قانونية سابقة لعهدها قياسا إلى ما تعيشه في المنطقة العربية في خمسينات القرن الماضي وحتى في بعض الدول الغربية أيضا آنذاك. في ظل الافتقاد إلى الموارد الطبيعية والمالية الضخمة فإن أهمية المشروع المجتمعي الحديث لتونس يتضح من كون أن إصدار المدونة القانونية، مجلة الأحوال الشخصية في العام 1956، جاء قبل حتى وضع أسس الدولة التونسية وإقرار نظامها السياسي وإعلان الجمهورية في العام 1957. لقد اختارت تونس منذ عقود طويلة التخلي عن ازدواجية المذاهب والفوضى الفقهية وأن تؤسس دولة مدنية تكون فيها الشريعة مصدرا مهما للتشريع بجانب باقي التشريعات الوضعية. ومع إعلان الجمهورية الثانية عبر دستور 2014 فإنه لم يعد ممكنا العودة إلى الوراء أو المراوحة في مكان واحد. فقطار التحديث لا يتوقف وتونس ملزمة بتطبيق ما جاء به دستورها الجديد من حرية الضمير والمعتقد والمساواة بين الجنسين وتسخير الدولة على العمل من أجل تكافئ الفرص بينهما، ووضع تشريعات جديدة ملائمة لذلك وغير هذا يعني انتكاسة للانتقال السياسي في الديمقراطية الناشئة. صحافي تونسيطارق القيزاني

مشاركة :