ثورات تونس القديمة والحديثة "جبائية" بامتياز بقلم: طارق القيزاني

  • 10/7/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

يُخشى من أن تكون هذه السياسات المالية قد بلغت أقصاها في ظل وضع اجتماعي مشحون، على الرغم من التحذيرات المسبقة من المنظمات الوطنية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/10/07، العدد: 10774، ص(6)] الحديث عن الضرائب وما يمكن أن تفرزه حالة الغليان إزاء الأزمة المالية الحارقة في تونس، لا يكفي بل إنه بدأ يأخذ منحى تحذيريا من انفجار بركان اجتماعي جديد في بلد عرف أغلب تحولاته انطلاقا من الشارع ومن الجباية نفسها. في الحقيقة تحتفظ تونس بذاكرة سيئة عن تاريخ الضرائب والذي اقترن في الكثير من الفترات بحالات قمع واضطرابات وثورات دامية كان لها تأثير مباشر على الحكم وحياة العامة. من تلك الأحداث المظلمة الموثقة تبرز مسرحية “مراد الثالث” التي ألفها الأديب والسياسي السابق الحبيب بولعراس والذي يحكي فيها قصة ملك شاب لم تعرف تونس حاكما يضاهيه في بطشه وسطوته. ومراد باي الثالث الذي حكم تونس بين عامي 1699 و1702 هو آخر ملوك العائلة المرادية التي يرجع بداية حكمها إلى عام 1628، لتخلفها بعدها العائلة الحسينية التي استحوذت على الحكم بموازاة الاستعمار الفرنسي وحتى تاريخ استقلال البلاد ومن ثم إعلان الجمهورية في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في عام 1957. ولكن مراد الثالث لم يكن مجرّد رقم عابر في تاريخ السلالة الحاكمة وفي تاريخ تونس خلال القرون الحديثة بشكل عام. فعلى أيدي هذا الحاكم الدموي عرفت تونس أسوأ فترات الحكم الملكي وأبشعها، ليس فقط بسبب التكالب العائلي على السلطة وإنما أيضا بسبب السياسات الجبائية المجحفة بحق الرعية. لقد ظل لقب “مراد بوبوالة”، والمعنى المقصود من الكنية صاحب السيف التركي العريض، أحد أشهر الألقاب التي اقترنت بحكم الأمير ذي الشخصية السيكوباتية وحياته الممزوجة بالعنف والدماء. بالعودة إلى سجلات الحكم المرادي فإن فترة حكم مراد باي الثالث ترتقي من دون مبالغة إلى ما هو مدوّن عن فظاعات حكم أمير والاكيا التابع لإقليم ترانسلفانيا في العصور الوسطى، فلاد الثالث، والملقب بفلاد “المخوزق” لاشتهاره باستخدام الخوازيق في إعدام أعدائه وحتى المقربين منه، حتى أصبح لاحقا ملهما لرواية “مصاص الدماء دراكولا” للروائي الإنكليزي برام ستوكر. لكن هواية مراد الثالث لم تكن قائمة على “الخوازيق” مثل فلاد الثالث، لقد كان أكثر وفاء إلى أساليب القتل العثمانية. مع أن الأمير المخوزق شكل عقدة مرعبة للأتراك في بداية حروبهم في البلقان قبل أن ينجحوا في الفتك به. سجن الأمير الشاب بأمر من عمه الملك الذي أمر بسمل عينيه خوفا من أن يثور على حكمه، لكنه فر من السجن ورتب لبداية انتقام شنيعة انتهت به الى قطع رأس عمه والجلوس على العرش وممارسة هواية سفك الدماء مع معشوقته “البالة”، بشكل خاص ضد المتمردين على الجباية. يروي المؤرخون عن فترة مراد الثالث أنه قتل أكثر من 800 شخص من المتمردين على الجباية في غارتيه على مدينتي القيروان وباجة وحدهما، كما قام بشي لحم أحد المقربين من عمه الملك وأرغم مساعديه على تناوله لتأكيد الولاء بعد صعوده للحكم. مع كل ذلك لم تكن قصص الرعب أكثر ما رسخ لدى المؤرخين المعاصرين من حقبة مراد الثالث الذي اغتيل لاحقا بأمر من الباب العالي، بقدر ما شكلت أزمة الجباية في عصره منطلقا لفهم التحولات الاجتماعية التي عرفتها تونس طيلة آخر فترات الحكم الملكي. وحتى خلال القرن التاسع عشر مع حكم العائلة الحسينية لم تخرج “الإيالة العثمانية” عن الحلقة المفرغة للأزمة المالية المتراكمة وفساد الحاشية المحيطة بالبلاط فكان الطريق المختصر لإنقاذ المملكة من الإفلاس هي مضاعفة الجباية، الأمر الذي أشعل انتفاضة شعبية جديدة عارمة عرفت بثورة قائدها علي بن غذاهم في عام 1864. اليوم لا يجد المؤرخون حرجا في عقد مقارنات جادة بين معاهدة باردو الموقّعة بين باي تونس والقنصل العام الفرنسي في العام 1881 (والتي مهدت للاستعمار الفرنسي) من جهة، والاتفاقيات الموقعة حديثا بين الحكومة التونسية والمنظمات المالية الدولية ومن بينها صندوق النقد، والمشروطة بإصلاحات اقتصادية واسعة من بينها أساسا الإصلاح الضريبي لنظام الجباية المعقد في تونس. صحيح أن لعنة مراد الثالث والحسينيين التي ظلت تلاحق حكام تونس المتشبثين بالسلطة حتى بعد الاستقلال، أصبحت غير ذات معنى بعد اندلاع الثورة في 2011 وإنهاء حكم الفرد الواحد والحزب الواحد، ولكن رواسب السياسات المالية المرتبكة أبقت على حالة التململ الاجتماعي غير بعيدة عما عاشه الأجداد. وربما يتعيّن على المؤرخين مرة أخرى استحضار ما حصل في الماضي، في وقت تتحضر فيه الحكومة إلى طرح قانون مالية جديد لعام 2018 سيكون موجها بالأساس إلى تعبئة موارد الدولة الشحيحة بتعميم ضرائب جديدة على عدة قطاعات، بجانب ضرائب أخرى توظف على الدخل والأجور وإقرار مساهمات استثنائية لإنقاذ الصناديق الاجتماعية من الإفلاس، فضلا عن زيادة جديدة متوقعة في أسعار البعض من المواد الاستهلاكية. يخشى من أن تكون هذه السياسات المالية قد بلغت أقصاها في ظل وضع اجتماعي مشحون، على الرغم من التحذيرات المسبقة من المنظمات الوطنية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، إذ لا يتوقف الإشكال عند تعميم الجهود المشاركة في التعبئة المالية بقدر ما يرتبط السؤال حول مدى توفر مبدأ العدالة الضريبية بين عموم التونسيين. كاتب تونسيطارق القيزاني

مشاركة :