في بلد يسهل فيه، في مثل هذه المراحل الانتقالية الدقيقة، البيع والشراء والاستثمار في المواقف المتبدلة، يؤكد التونسيون في غالبيتهم أنهم لا يساومون في معارك مصيرية.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/03/14، العدد: 10571، ص(7)] في عقد الثمانينات من القرن الماضي وفي غمرة التوتر الاجتماعي والسياسي الذي كان يعصف بتونس وينذر بحريق حول القصر الرئاسي للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، لم يكن أشد المتفائلين يتوقع صمودا للتونسيين ولدولتهم من خطر الانهيار في وقت كانت فيه الفوضى تلوح في الأفق وتتربص بكل مدينة وكل شارع. وسط كل ذلك سئل الملك المغربي الراحل الحسن الثاني عما إذا كانت القلاقل الاجتماعية والسياسية تلك في تونس، خاصة بعد الأحداث المسلحة التي شهدتها مدينة قفصة، تهدد بتحويل البلد الصغير إلى منطقة عدم استقرار دائم. على عكس ما كان باديا على الأرض، كان رد الملك الواثق هو النفي القاطع، والسبب في ذلك حسب تقديره أن تونس بكل بساطة بلد لا يمكن زعزعته، فتونس هي شعب. إذ من الممكن زعزعة استقرار النظام لكن من غير الممكن زعزعة استقرار شعب. إن مسح وعي المواطن التونسي يتطلب قنبلة ذرية أو عدة قنابل ذرية لمسح تونس من الخارطة، هكذا فسر الملك أحجية التونسيين. ولكن بينما يبدو تقدير الملك الراحل في محله، على الأقل قياسا لما حصل ويحصل في تونس وما يبدر من التونسيين وقت الشدائد منذ انتفاضة علي بن غذاهم منتصف القرن التاسع عشر، فإن مشكلة الساسة في تونس وعلى عكس ما يصدر من إشادات دولية بانتفاضة التونسيين وتجربة الانتقال الديمقراطي، أنهم لا يعطون شعبهم حق قدره ولا يضعون تضحياته في مدارها الصحيح. منذ سنة خلت يتردد في أذهان التونسيين درس قادم من مدينة الجنوب، بنقردان، أين سقط تنظيم الدولة الإسلامية (القادم من ليبيا) بشكل مخز في وقت كانت فيه انتصاراته وجرائمه الإرهابية تطبق الآفاق في الشرق الأوسط وتبث الرعب لدى المجتمع الدولي عبر فيديوهاته الهوليوودية. في مدينة بنقردان اكتشف تنظيم داعش حقيقة أخرى وهي أن التونسيين قادرون وبكل قوة على كف الأذى عن أنفسهم متى تعلق الأمر بوطنهم وبشرفهم، مع كل ما تعانيه المدينة من اقتصاد هش يعتمد على التجارة الموازية، والتهريب بكل تقاطعاته مع أنشطة الإرهاب، وفي منطقة شكّلت استراتيجيا على مدى أشهر طويلة ملاذا وأرض عبور واستقطاب سري للمسلحين والمتشددين الناشطين على الحدود الليبية. لم يشفع كل ذلك المناخ لأهالي بنقردان حتى يرضخوا لإغراءات داعش، فكانت الهزيمة النكراء للتنظيم المتطرف. هزيمة منطقية لخصها أحد شيوخ المدينة المنسيين فقد في الملحمة طفلة بعمر الزهور، بقوله المأثور “وطني قبل بطني”. في بلد يسهل فيه، في مثل هذه المراحل الانتقالية الدقيقة، البيع والشراء والاستثمار في المواقف المتبدلة، يؤكد التونسيون في غالبيتهم أنهم لا يساومون في معارك مصيرية. لكن هل تعي السلطة السياسية حقا حجم هذه التضحيات وهل تضع في حساباتها السيناريوهات المتوقعة لاستمرار غياب الدولة في بنقردان وغيرها من الأماكن التي تقف في واجهة الحرب ضد الإرهاب. في العادة، في مثل هذه الحرب الطويلة والمعقدة والمكلفة لا تعول دولة صغيرة ومحدودة الموارد سوى على أخلاق شعبها في المقام الأول. فماذا لو خسرت الدولة هذه الأخلاق بسوء تقديرها للأمور والأولويات. لقد تحدثت السلطة طويلا عن استراتيجيات شاملة لمكافحة الإرهاب تنطلق من قاعدة سد الثغرات الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز الفعل الثقافي المقاوم لنزعات اليأس والتطرف بالإضافة إلى المعالجة الأمنية. لكن بعد عام كامل على معركة بنقردان لا يبدو أن الأوضاع هناك تغيرت على الأرض بخلاف الوعود بمشاريع التنمية. لا شيء يدل على أن السلطة استوعبت الدرس ضد حالة التراخي والبيروقراطية. بهذه السياسة فإن ما تفعله السلطة ومؤسسات الدولة اليوم هو أنها بصدد مضاعفة محنة الحرب ضد الإرهاب وضد الفقر واليأس والإحباط بإغفالها سرعة رد الفعل في تقدير تضحيات الناس بما يمكن من تعزيز ثقتهم في الساسة والحكام. من دون شك يتوقف جزء كبير من كسب الحرب على الإرهاب على ما تقدمه الدولة من بدائل مطمئنة عبر خلق فرص عمل للشباب وتحسين الخدمات وظروف العيش، ورد الجميل لمن ضحوا بأرواحهم حماية للوطن. ولعل مشكلة تونس الأساسية هنا، أن الدولة أحيانا لا تبدو في مستوى اللحظات الفارقة التي يخطها التونسيون. فمثل بنقردان قاهرة داعش، تنتظر الكثير من الجهات الأخرى مثل القصرين وتالة وسيدي بوزيد مهد الثورة أن تفعل الدولة ما يتوجب عليها احتراما لأخلاق الثورة أولا ولقيم الديمقراطية التي تصبو إلى ترسيخها تونس الجديدة. صحافي تونسيطارق القيزاني
مشاركة :