في اللحظة التي نزل فيها من جبل النور... أشرق العالم وأضاءت أنفسنا. لا تليق هذه الجملة إلا بنفس بشرية واحدة، من أنفسنا عزيز عليها ما عنتنا حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم. إنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، امتداد سلالة إبراهيم أبي الأنبياء، ورغم ذلك فإنه لم يرفع يوماً سلالته في وجه أحد لكي يحط من قدره أو يهينه، فمنذ طفولته وحتى مماته كان من الناس وبين الناس ويعمل من أجل الناس حتى أصبح هو الطريق والمسار والمسير لرب الناس. وإذا كان يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم حبيس البئر والسجن في أول القصة، فلقد أصبح في نهاية أحسن القصص عزيز مصر وسجد له أحد عشر كوكباً والشمس والقمر. أما هو، ففي آخر لحظات حياته كان مرهون الدرع، ينام على الحصير حتى تظهر العلامات في جنبه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، يفكر في أمته خوفاً عليهم ورجاء من الله أن يحميهم الفتن ما ظهر منها وما بطن. وسليمان عليه السلام الذي جمع ملكاً لا ينبغي لأحد بعده وحشر له الطير والإنس والجن وإمكانية تنكيس أكبر عروش الممالك وعرف منطق الطير ومنطق الريح، صلى الله وسلم على جميع رسله وأنبيائه لا نفرق بين أحد منهم، ولكن محمد بن عبدالله كان الإنسان الذي يشبهنا لدرجة أنه مر وسار على جميع العتبات والمقامات التي تمر بنا، فهو اليتيم الذي بكى أمه والحليم الذي تأمل العالم وحده، والنبي الذي شعر بالخوف في أول الرسالة حتى قالت له خديجة «والله لا يخزيك الله أبداً». وهو الأب الذي مات أبناؤه واحداً تلو الآخر أمام عينيه، وهو الجد الذي علم بأن حفيده الذي يعتلي ظهره في الصلاة مقتول مظلوم وعطشان، وهو الصاحب الوفي البسوم رغم الحزن حتى قال الله له «لا تحزن»، وهو المقاتل الفارس الذي انتصر في معارك وأصيب في أخرى، وهو العبد الشكور الذي تورمت قدماه من قيام الليل، وهو الجائع الصائم طويل الصمت الزاهد الذي لم تشعل النار في بيته الهلال والهلال والهلال، ولو أراد جبال مكة ذهباً وفضة لحصل عليها. وهو الزوج الصبور الكريم المحب المحافظ على الذكرى لدرجة أنه كان يحب أن يتكلم مع صاحبات خديجة عندما يراهنّ، والمحب في حسن العشرة حتى قالت عائشة فيه «كان خلقه القرآن». نحبه لأنه يشبهنا... يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير غير المصفى من الشوائب، وكان يخيط ثوبه ويخصف نعله وينام تحت الشجرة ويجعل من يده اليمنى وسادة لخده الأيمن، وما سبب إحراجاً يوماً لطفل أو حتى لتلك المرأة المجنونة التي كانت تأخذه من يديه وتسير به في المدينة من أجل أن تشتكي له الأطفال الذين أساؤوا إليها... لقد كان شديد الحياء أكثر من العذراء في خدرها. لقد كان رسول الله من الناس، يمشي بينهم في الأسواق ويشعر بهم ويفهم سلوكهم، يمازح وينصح ويسلم على الصبيان، حتى أن الأعرابي يعامله بجفاء أمام أصحابه فلا يرد عليه إلا باللين. رعى الغنم وجمع الحطب وعمل في التجارة وعرف البر والحضر، لقد كان يخرج أجمل ما في الناس من إمكانات وقدرات وجوهر وأدوار، فكان يغير الاسم القبيح ويحب المسك ويتفاءل بالسهل وتعجبه الرؤيا الحسنة، ويتفقد أصحابه في غيابهم، فلقد أصبح الصديق صديقاً لأنه صدقه، وهو من علم الفاروق العدل وجعل من عثمان مثالاً للحياء والحلم ومن حيدر بحراً للجود والعلم. إنه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الممارسة الذي جعل من النظريات الأخلاقية تسير على قدميها بعد أن كانت تسير على رأسها، إنه الذي عمل بما علم حتى أورثه الله علم ما لم يعلم حيث إنه لم يكن كالتمثال الذي يشير إلى الطريق ولا يسلكه، بل كان الإنسان الذي مارس الطريق وعرف جوانبه حتى رسخ في رسم معالمه لمن معه ولمن بعده حتى جعله كالمحجة البيضاء. ونحن الذين من بعده، إخوانه الذين آمنا وصدقنا ما قال من دون أن نراه... وأحببناه من دون أن نجلس معه... فقط لأنه يشبهنا... ومن أنفسنا. فاللهم قرّب المسافات بيننا وبينه يوم القيامة. كاتب كويتي moh1alatwan@
مشاركة :