إيما بوفاري الحسناء اللعوب التي غيرت تاريخ الأدب بقلم: فاروق يوسف

  • 10/8/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

فلوبير احتل مكانة متميزة في تاريخ الرواية الغربية الحديثة بسبب روايته مدام بوفاري التي حظيت باهتمام عالمي لافت بحيث ترجمت إلى جميع اللغات الحية.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/10/08، العدد: 10775، ص(10)]إيما بوفاري شغف مجنون بالحياة قادها إلى الخلود لندن ـ تبدأ سيرة إيما بانتقال الفتاة الريفية من منزل عائلتها إلى منزل زوجها شارل بوفاري، الطبيب الأرمل الذي توفيت زوجته الأولى منذ وقت قريب. كانت إيما تمنّي النفس بالتخلص من حالة الضجر التي تمكنت منها بزواجها من طبيب حيث سيفتح ذلك الزواج أمامها أبواب حياة يسودها المرح والحفلات الراقصة التي تقيمها العوائل الثرية. غير أن شيئا من تلك الآمال لم يتحقق. وهو ما سبّب شعورا بالإحباط لدى تلك المرأة الحالمة التي لم تقتنع بأن مصيرها قد ارتبط بمصير طبيب ريفي متواضع لم تجد فيه ما يُرضي خيالها لذلك فقد تعرضت لنكسة صحية نصح أحد الأطباء زوجها بتغيير مكان إقامتهم علاجا لها. وهو ما جرى حين انتقلت العائلة من روان الى أونفيل وكانت إيما حاملا. إيما عاشقة الكتب والطبيعة في بلدتها الجديدة تتعرف إيما على عدد من السكان، كان من بينهم الشاب ليون، الشاب الأنيق الذي يدرس القانون في باريس. وقد وجدت إيما في نفسها ميلا إلى ذلك الشاب بسبب ما يجمعهما من حب للطبيعة والفنون والكتب. في حقيقة مشاعرها فقد عثرت إيما في ليون على الحب الذي كانت تحلم به ولم تعثر عليه في زوجها. تعيش إيما حالة من التمزق النفسي إذ تقف حائرة بين العفة التي يفرضها عليها الواجب الاجتماعي كونها زوجة وأمّا وبين رغبتها في أن تكون محبوبة بطريقة تتناسب مع شهواتها الداخلية. وهو ما لم تجد له مخرجا وأقلق ليون الذي قرر هو الآخر أن يختفي من حياتها وبسافر إلى باريس. براءة إيما وغوستاف معا بعد أشهر من زواجها شهدت بلدتها الصغيرة التي تقع جنوب فرنسا احتفالا كبيرا بمناسبة إقامة السوق الزراعية. يومها رافقها رودلف بولانجيه الشاب الثري ذو الخبرات النسائية الذي تعرف عليها في وقت سابق واستطاع بيسر أن يغرّر بها لتربطها به علاقة غرامية قادتها إلى التخطيط للهرب معه بعد أن أقنعها ذلك الشاب أنّ لا مستقبل لزواجها. حين حضرت إيما ذات مرة من قصر رودولف كانت تهذي “إن لي عشيقا” وهو ما جعلها تشعر بعظمة التغيير الذي طرأ على حياتها. وحين حانت لحظة الهروب بعد أن اتفق الاثنان لم يف رودولف بوعده وتركها تنتظره من غير أمل.فلوبير لم يشعر باليأس، بل يقرر أن يستعيد ثقة أصدقائه به كاتبا، وأتته فكرة الرواية الجديدة من خبر صغير نشر في إحدى الصحف المحلية عن سيدة من روان أقدمت على الانتحار لأسباب عاطفية. غير أن نشر الرواية الجديدة لم يمر بسلام. لقد أحيل مؤلفها وناشرها إلى المحاكمة بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة بعد أن تتعرّض إيما لحالة من الاكتئاب تقنع زوجها بضرورة تغيير نمط حياتها عن طريق الانخراط في إحدى دورات تعلم الموسيقى في المدينة وهناك تلتقي مرة أخرى بـ”ليون” حيث تأخذ علاقتهما هذه المرة طابعا ماجنا. أثناء ذلك كانت إيما قد غرقت في الديون من غير علم زوجها. كانت تستدين من التاجر ليريه الأموال من أجل إنفاقها على شراء الملابس الراقية والعطور والهدايا لعشاقها. وحين حان موعد سداد تلك الديون لم تجد مَن يعينها على ذلك. لجأت إلى ليون وردولف فلم تجد منهما سوى الصد. لقد كانت وحيدة حين قام ليريه من خلال المحكمة بالحجز على أثاث بيتها وهو ما دفعها إلى الانتحار هربا من الفضيحة. إنها سيرة امرأة طائشة عبثت بنفسها بعيدا عن أيّ شعور بالمسؤولية وقد كانت زوجة وأمّا. فما الذي يجعل منها محور اهتمام لم تختف أسبابه طوال أكثر من 160 سنة؟ عام 1856 صدرت الطبعة الأولى من رواية مدام بوفاري وهي أول عمل أدبي ينشره الفرنسي غوستاف فلوبير (1821 -1880) وقد استغرق في كتابته خمس سنوات بدأت أثناء زيارته لمصر. غير أن تلك الرواية لم تكن محاولته الأولى في ميدان الكتابة. ففي عام 1849 أنهى فلوبير كتابة رواية بعنوان "تجربة القديس أنطوان" غير أنها لم تحظ بإعجاب صديقيه لويس بوييه وماكسم دوكان اللذين طلب فلوبير رأيهما في ما كتب.مدام بوفاري هي أنا مقولة غوستاف فلوبير تعبر عن شعور الكاتب الفرنسي بأن بطلته أخذت منه الكثير ووهبته الكثير بحيث صارا كما لو أنهما الشخص نفسه. لم يشعر باليأس بل قرر أن يستعيد ثقة أصدقائه به كاتبا وأتته فكرة الرواية الجديدة من خبر صغير نُشر في إحدى الصحف المحلية عن سيدة من روان أقدمت على الانتحار لأسباب عاطفية. غير أن نشر الرواية الجديدة لم يمر بسلام. لقد أحيل مؤلفها وناشرها إلى المحاكمة بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة. صوّر المخرج الأميركي فنسنت مينيللي جانبا من تلك المحاكمة في فيلمه المقتبس من الرواية. كانت تلك المحاكمة التي انتهت ببراءة المتهمين واحدة من أشهر المحاكمات الأدبية. قدم فلوبير فيها خلاصة رؤيته لعلاقة الأدب بالحقيقة حيث قال في مرافعته “إنني أيها السادة أصرّ على الطابع الحقيقي لهذه الحكاية. وأضيف أن أخلاقية تخاف سماع الحقيقية ليست جديرة بهذا الاسم. إن في وسع الناس ألاّ يحبوا الحقيقة، وفي وسعهم أن يروها جريئة ومزعجة، في وسعهم أن يضطهدوها ويشوهوها وأن يطلبوا من القوانين خنقها ولكن الاعتقاد بأن الناس سوف يسيطيرون ذات يوم على الحقيقة ويستعبدونها ليس أكثر من بدعة وجنون. إن الحقيقة سوف تعبش دائما. أما البشر ففانون”. ببراءة فلوبير انتصرت إيما بوفاري على منتقديها لأول مرة. شبحان يطارد أحدهما الآخر "مدام بوفاري هي أنا" الجملة التي قالها غوستاف فلوبير تعبر عن شعور الكاتب الفرنسي بأن بطلته أخذت منه الكثير ووهبته الكثير بحيث صارا كما لو أنهما الشخص نفسه. غير أن ما لا يمكن إنكاره أن إيما صارت عبر الزمن أكثر شهرة من مخترعها. وإذا ما كان فلوبير قد احتل مكانة متميزة في تاريخ الرواية الغربية الحديثة بسبب روايته فإن تلك الرواية قد حظيت باهتمام عالمي لافت، بحيث ترجمت إلى جميع اللغات الحية في العالم بعد صدورها فرنسيا بوقت قصير.إيما تعيش حالة من التمزق النفسي إذ تقف حائرة بين العفة التي يفرضها عليها الواجب الاجتماعي كونها زوجة وبين رغبتها في أن تكون محبوبة. فلوبير الذي نشر بعد "مدام بوفاري" روايتين هما “التربية العاطفية” و”سالامبو” كان يدرك أنه يدين لبوفاري بحظوته في الأوساط الأدبية الفرنسية وهو ما جعله يشعر أن شبح إيما يطارده ليستذكر في نهاية حياته المرحلة التي كان يطارد فيها شبح إيما في مغامرتها العاطفية. "لقد وقفت عشرات المرات أمام الفندق الذي يقيم فيه ليون وفي ذهني سؤال يتعلق بالانقلاب الذي ستشهده حياة إيما فيما لو قررت الدخول إلى الفندق”. شبحان يطارد أحدهما الآخر. لكن النصر كُتب أخيرا لإيما. المرأة التي احتفظت بشبابها إلى الأبد. يكتب فلوبير في أحد رسائله “رواية مدام بوفاري أصابتني بالملل. رواية مدام بوفاري تهيجني والابتذال في هذا الموضوع يصيبني بالغثيان". بعد سنوات ستكون رائعة فلوبير مصدر إلهام للعديد من الكتاب والسينمائيين. هناك مَن كتب متأثرا بها فهي القاعدة الراسخة التي شيدت عليها عمارة الرواية الواقعية غير أن هناك أيضا مَن سعى إلى أن يكتب بطريقة مضادة. لقد ظهرت نسخ عديدة من إيما، لم تكن كلها قادرة على أن تجاريها في جراءتها. وهو ما يعني أن فلوبير لا يزال يحتفظ بصفته سيدا للرواية. في الوقت نفسه كانت السينما قد وضعت عينها على مدام بوفاري. هناك عشرات الأفلام قد أنتجت من أجل أن يظهر مخرجوها طريقتهم في النظر إلى إيما. تلك الأفلام وسّعت من نطاق شهرة إيما ففي كل فيلم تظهر بطلة فلوبير بوجه جديد وهو ما لم يكن فلوبير يحلم به أن تظهر بطلته بوجوه متعددة. وجوه تعبّر عن حقيقة تلك المرأة التي مرت بالحياة مثل عاصفة.

مشاركة :