فيلم “الدائرة” للمخرج جيمس بونسولدت وهو نفسه كاتب السيناريو (إنتاج 2017) إشكالية اجتماعية كبيرة حينما تصبح أدق المعلومات الشخصية منتهكة وتتم المتاجرة بها تحت شتى الذرائع والحجج وليس أقلها بديهية تحول العالم إلى قرية اتصالية صغيرة. والفيلم يعالج مجمل هذه الإشكاليات من خلال مقاربات متعددة تصب في مجملها في ظاهرة الذوبان التدريجي للفرد في الموج العارم الذي يمثله رأي عام غارق في تلك التكنولوجيا ومستمتع بانتهاك الخصوصيات. ومؤسسة “الدائرة” هي العنوان العريض الذي يختصر ما أشرنا إليه، وهي المؤسسة التي ستلتحق بها الشابة ماي هولاند (الممثلة إيما واتسون) بعد حياة متعثرة على جميع الأصعدة الشخصية منها والعملية، فهي تشارك أسرتها معاناة والدها المعاق وتكريس والدتها كل جهودها لمساعدة الزوج في حياته اليومية. وفي المقابل هناك ميرسير صديق ماي (الممثل إيلار كولتران) الذي ستتسبب له بمشاكل اجتماعية بسبب نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي صورا له تظهر ميله لاصطياد فصيلة معينة من الغزلان، بما يهيّج الرأي العام وجمعيات حماية الحيوان، لكن تلك ليست إلاّ البداية، إذ تقرر ماي التخلي كليا عن خصوصياتها وتربط نفسها بنظام رقمي للكاميرات يراقبها، وينقل كل حركاتها على مدار الساعة، وهو ما سيعدّ نقطة تحول في مسار تلك المؤسسة وبداية مرحلة جديدة فيها. ويدير هذه المهام مجتمعة شريكان هما يامون (الممثل توم هانكس) وتوم (الممثل باتون أوسوالد) ويجري كل ذلك من خلال تجمعات تشبه حلقات “توك شو” التلفزيوني، حيث يتألق يامون في جذب الرأي العام إلى ما تمثله “الدائرة” من مؤسسة رائدة وفريدة من نوعها.الفيلم يسرد الذوبان التدريجي للفرد في الموج العارم الذي يمثله رأي عام غارق في التكنولوجيا المنتهكة للخصوصية وخلال رحلة ماي مع “الدائرة” بكل ما تحمله من تفاصيل الحياة المستقبلية تقدم نموذجا فريدا ومتقدما في إزالة الحواجز بين الناس إلى درجة ظهور والديها في حجرة النوم في انتهاك صارخ للخصوصية يصدمها ويصدم والديها، لكنها لن تتمكن من التراجع عما سارت فيه، ولهذا سوف تتمادى في استغلال مشاركة الملايين من المتابعين للقبض على مجرمة وقاتلة، إلاّ أن الحضور الكثيف يطالب بالعودة لصديق ماي نفسه، ولهذا تلاحقه الكاميرات وينتهي به الأمر إلى حادث مروّع ينتهي بمقتله. وشكل انكشاف الحياة الشخصية لوالدي ماي ومقتل صديقها عنصري تحول أساسية على مستوى السرد والبناء الدرامي، وحوّل ماي من شابة مغمورة إلى صاحبة رأي مسموع ومؤثر، وتدفع هاتين الحبكتين الثانويتين الأحداث إلى تصعيد جديد يتعلق بماي نفسها وكيف سيكون شكل حياتها وقد قدمت خصوصيتها هدية واستجابة لمشروع الدائرة الذي آمنت به، الأمر الذي يدفعها إلى اقتراح أن يتم الاقتراع في الانتخابات من خلال حلقة “الدائرة”، وبالتالي أن يكون الاقتراع إجباريا، وهو ما يثير إعجاب يامون، حيث بات يرى في النموذج الذي تبنّاه يواصل الصعود. اعتمد الفيلم في حلّه الإخراجي على مشاهد التجمعات الجماهيرية، حيث الجميع أونلاين يراقبون ما يجري، فيما يتم تتويج ماي أيقونة رقمية فريدة يجري التفاعل معها يوميا من خلال عشرات الآلاف من التعليقات، ولكنه أيضا قاد إلى رتابة في الإيقاع والتركيز على الحوارات، بينما في المقابل كان المسار الأكثر إقناعا، هو حالة الصراع النفسي الذي كانت تعيشه ماي، خاصة وهي تتخلّى عن مبادئ الخصوصية التي تدافع عنها صديقتها آني (الممثلة كارين غيلان) وكأنها تحوّلت إلى صوت الضمير الذي بدأ يختنق في داخل ماي، بما يدفعها إلى ما تسميه التحوّل إلى كائن شفاف لا خصوصية له. ولعل الصراع بين تجرّد الإنسان عن خصوصياته وحفاظه عليها هما المحوران اللذان أسّسا لاستقطاب متصاعد تمثّل في تعاطف جمهور يشجع ذلك الإغراق في فقدان الخصوصية، وهو ما يدفع ماي في النهاية إلى دعوة مرؤوسيها إلى التخلي عن خصوصياتهم هم أنفسهم، وهو ما يشكّل صدمة كبرى، إذ سرعان ما تظهر على الشاشات وعبر شبكة الإنترنيت جميع خصوصيات يامون وتوم، وماذا يخفي برنامجهما، فضلا عن مراسلاتهما ومداخيلهما ولهذا يختصر توم ما آلت إليه الأمور بعد فقدان خصوصيتهما بعبارة “لقد انتهينا”. ولعل الذروة الفيلمية هذه هي التي أضفت نوعا من التطهير والتحوّل الجذري في مسار الأحداث، فمن أسّس لمشروع الدائرة لمحو الخصوصية، وهو الأكثر محافظة على أسراره، وقد تحوّل فجأة إلى كائن من دون خصوصية خاضعا أيضا لمقولة إن الأسرار الشخصية هي نوع من الخيانة، وتلك هي المفارقة الكبرى في الفيلم.
مشاركة :