زرعت إيران كثيرا من الأفكار السلبية والخاطئة عن دول الجوار العربي في الداخل العراقي، وفي الوقت ذاته لم تخف أهدافها التوسعية تجاه هذا الجار اللدود يتشارك العراق وإيران تاريخًا طويلًا مليئًا بالخلافات، بل والصراعات الدموية منذ العصرين العثماني والصفوي، ويرى كل طرف منهما الآخر خصمًا، إن لم يكُن العدوّ الأول. مثل هذه العلاقات المتوترة تاريخيًّا يصعب تجاوزها خلال سنوات قليلة، حتى وإن اختفى ذلك الصراع خلف مستجَدَّات جعلته يغيب مؤقَّتًا، لكن هذه الحقائق راسخة في اللاوعي على الطرفين يتم العودة لها عند أول لحظة تمعن في الواقع وتفاصيله. وفِي العصر الحديث ومنذ عام 1988، تاريخ الحرب العراقية-الإيرانية، تتحين إيران فرصة تلو أخرى لإضعاف العراق والتخلُّص منه، ولكنها لم تتمكَّن من تحقيق ذلك، لأسباب كثيرة، حتى 2003 عندما اجتاحت القوات الأميركية العراق وأسقطت نظام صدَّام حسين، وتحول العراق إلى حالة من الفوضى، استغلَّتها طهران بشكل جيِّد على جميع الأصعدة، حتى تمكنت من السيطرة على كثير من مفاصل الدولة العراقية وبخاصة خلال فترة رئاسة نوري المالكي. أيقن النظام الإيراني أن الجانب القومي العربي متمكِّن من الشخصية العراقية، فاستهدف هذا العنصر، وعملت طهران عبر استراتيجية مُحكَمة على قطع أواصر الترابط بين العراق وأشقائه العرب، عن طريق تشويه الصورة العربية والعزف على الجانب الطائفي، بالإضافة إلى استغلال التنظيمات الإرهابية لهذا الغرض. كذلك ساندت إيران ومكنت بعض العراقيين الذين قاتلوا يومًا في صفوف الحرس الثوري الإيراني ضدّ وطنهم العراق، وكلّفتهم بمهمَّة القتل على الهوية وإدارة البُعد الطائفي، وإطلاق التهديدات والتصريحات العدائية ضدّ الدول العربية، خصوصًا المملكة العربية السعودية. ربما ارتكبت دول المنطقة بعض الأخطاء الاستراتيجية بعدم عودة العلاقات مع العراق بعد 2003، وترك الميدان العراقي خاليًا للجانب الإيراني ليصول فيه ويجول، ومن المؤكَّد أن لهذه الدول مبرِّراتها وحساباتها آنذاك. كذلك لم تُصغِ الإدارة الأميركية حينها إلى بعض النصائح والتحذيرات الخليجية، خصوصًا السعودية، بعدم اجتياح العراق وإسقاط النظام القائم هناك حينها، يبقى كل ذلك فترة قصيرة في عمر العلاقات بين الأشقاء. اليوم ندخل مرحلة جديدة من العلاقات السعودية-العراقية، ويبدو أن في الجانبين رغبة حقيقية لطَيّ صفحات الماضي بكل ما فيها، والنظر إلى المستقبل، من خلال ترميم الجسور وبناء الثقة المتبادَلة، والعمل لما فيه خدمة الجانبين على المستويين الرسمي والشعبي. فهاتان الدولتان تمتلكان من المشتركات الثقافية والتاريخية والعرقية ما يجعلهما ترسمان خطًّا جديدًا يُعِيد إلى المنطقة هيبتها ويُسهِم في إرساء الأمن والاستقرار ووأد أدوات الصراع، وإغلاق الباب في وجه المشروعات الخارجية التي عملت على توسيع البَون بين العراق وأشقائه وامتداده الطبيعي. ولعل مجلس التنسيق السعودي-العراقي، الذي أُعلِنَ تأسيسه وتفعيله مباشرة إبان زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للرياض، يمثل الخطوة الأولى في طريق الألف ميل. لقد استغلت طهران العراق على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية خلال السنوات الماضية، وحوَّلَت العراق سوقًا كبيرةً للمنتجات الإيرانية شديدة الرداءة، في إطار سعي النظام الإيراني للسيطرة الكاملة على السوق العراقية، حتى لا يترك مجالًا للمواطن العراقي فيفاضل بين المنتجات، لأن ذلك إذا حدث فسيجعل المنتجات الإيرانية في ذيل القائمة، ولعل استبشار المجتمع العراقي بالانفتاح على السعودية والحضور المكثف للمعرض السعودي في بغداد خير شاهد على ذلك. إلى جانب ذلك زرعت إيران كثيرًا من الأفكار السلبية والخاطئة عن دول الجوار العربي في الداخل العراقي، وفي الوقت ذاته لم تخف أهدافها التوسعية تجاه هذا الجار اللدود، بل إن بعض المسؤولين الإيرانيين، مثل علي يونسي مستشار الرئيس حسن روحاني، كشف عن أهداف بلاده تجاه العراق دون أي تَقِيَّة سياسية، عندما قال إن «إيران تتحول إلى إمبراطورية، وعاصمتها بغداد»، كما أن التقاط زعيم الإرهابيين قاسم سليماني صورًا في الداخل العراقي -مثل مدينة تكريت- ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهِر جليًّا الرسالة التي أراد النظام الإيراني إيصالها إلى الداخل العراقي، وقد حان الوقت لتعود للعراق هيبته ومكانته التي يستحقها، واستقلاله السياسي، والنظر إلى مصلحة العراق وشعبه أولًا، دون اهتمام بمصالح الآخرين. ولَعَلِّي أهمس في أذن كل عراقي مُخلِص بالقول: ابحث عن عراق المستقبل في داخلك، وأَسهِمْ في صناعته، وفي عودة وطنك إلى المكانة التي يستحقُّها. اهتم بمصلحة وطنك، ووطنك فقط، وخذ عِبرةً من الماضي لفهم الحاضر واستقراء المستقبل، وستجدنا العَضُدَ اليمنى لك والمرحِّب بك، والمتفائل بعراق يحلم به كل العراقيين وكل من يحب العراق، لينفض المارد العراقي غبار الخمسة عشر عاما الماضية ويعود إلى حضنه العربي والأهم إلى المكانة التي يستحقها. ولعلك تستذكر معي قول أحمد رامي: إيه بغدادُ والليالي كتابٌ ضَمَّ أفراحَنَا وضَمَّ المآسي عبَثَ الدهرُ في بساتينِك الغنَّاء والدهرُ حين يعبَثُ قاسِ فتَصدَّيتِ للغُزاةِ وجابَهْتِ إذا هُمْ مِثلُ الجبالِ الرَّوَاسي نرجو أن يستعيد العراق الشقيق عافيته ويعود رمزًا للثقافة والحضارة العربية، بأدبائه ومثقفيه وعلمائه ومقدَّراته وثرواته، وبكامل مكوناته العرقية والدينية والمذهبية.
مشاركة :