«الصحوة».. نقطة آخر السطر

  • 11/1/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

< كلما اقتربت من قناعة أكيدة بأن صفحة «الصحوة» طويت إلى الأبد، ينهال على رأسي سيل من الأسئلة المراوغة، تستفزني بخبث، ولسان حالها يقول: «الصحوة مكون أساس في وعي المجتمع وثقافته، وأن كل ما كتبت عن الصحوة ومحتواها الفكري وأخلاقياتها وسلوكها وتنظيماتها عبر سنوات مضت لا يعدو كونه نقداً للظاهرة إبان عافيتها وتسنمها هرم التوجيه المجتمعي»، يومئذ كانت «الصحوة» مباركة ومدعومة، ولها قادتها، الذين يحتلون مراتب علمية وتوجيهية عليا في الدولة، يومذاك كنت أقف بينهم كعدو «ليبيرالي» دخيل يبتغي تدمير المجتمع وإسقاط بنيان الدولة الشامخ المتكئ على الدين بمنهجه الحركي الصحوي وبنائه السلفي. وكانت تلك المقالات تواجه بعاصفة من «التجهيل» و«الاستسخاف».. وفي كثير من الأحيان «الاستخفاف». هل انتهت الصحوة؟ لا.. لم تنته، على الأقل في وعي كثير من المنتمين إلى مدرستها الحركية، الموالين تاريخياً لها. فكون الصراع التاريخي، الذي تتبناه «الصحوة» يعتمد على «الكر» و«الفر» واستغلال الفرص والثغرات، والالتفاف حول بعضها أيام الأزمات، كما يحدث اليوم، أعني النقطة الأخيرة التي وصلت إليها الصحوة، وفيها يتأكد - بلا شك - نوع العداوة التي ستخوضها وتحرض عليها مستقبلاً، ليس ضد الأنظمة فحسب، كما كانوا في الربيع العربي، بل ضد كل المنقلبين عليهم، الذين وجدوا أنهم خارج المرحلة وأن مصالحهم لا تتجاذب مع قواهم المنهكة، بعدما تمكنوا من الوصول إلى مقامات رفيعة، باستثمار الحراك الصحوي، وهم بهذا لم يخرجوا البتة من تكتيكات اللعب على المراحل، فمن لم يصل منهم ولم يحرز تقدماً ومركزاً مرموقاً يخشى عليه من الزوال «لاذ» بخباء الصمت حتى تمر هذه العاصفة بسلام، كما يعبر عن ذلك أحد أكبر منظريهم، وها نحن نلحظ اليوم بعض الملامح التي بدأت تتضح من تحت أنقاض الهدم، في كل الرسائل التي تسوق عبر مواقع التواصل الاجتماعي ذات النبرة التمجيدية لـ«الصحوة»، وعقد مقارنات بين ما كانت تقدمه للمجتمع وما يحدث، لم يكن الاجتثاث كافياً تماماً لتجريف بؤرها وتجفيف منابعها في شكل نهائي وحازم، وهذا يستثير مخاوف من نوع ما على شكل المستقبل، الذي ينتظر مجتمعاتنا ومؤسساتنا، وأخصها المؤسسة التعليمية التي باتت بعد تفريغ الخطاب الصحوي منها كأبواب بلا أقفال، تلاعبها الرياح في كل الاتجاهات، ربما كان ما توخيناه من كل حرف كتبناه عن «الصحوة» هو تصحيح مسارها، لتكون حركة اجتماعية تعتمد على أخلاق إسلامية بناءة تسعى إلى الحفاظ على مقومات الوطن الحقيقية، وتنتزع نفسها من براثن جماعة الإخوان المسلمين واتجاهاتها الثورية الرامية إلى تقويض أمن المجتمعات المسالمة، ورأينا خطورة تمدد وعيهم السياسي داخل عقول شبابنا، وكيف زرعوا ضغينة الفرقة بينهم على خلافات هامشية ضخمت إلى حد التكفير والتفسيق، ما أدى إلى انقسام المجتمع إلى فريقين؛ فمن لم يكن معي فهو ضدي، وتابعنا نيات التنظيم، وكيف صنفت في سنة من السنوات قوائم تضمنت أسماء سياسيين ومفكرين ومسؤولين وضعوا تحت «مظلة» الخطر على الأمة، تدفعهم شهوة الانتقام، من خلال تصفيات منظمة، ولولا أن الله سلم لوقعت كوارث، ثم رأينا سرعة التنظيم في التأليب ضد أي قرار يصب في مصلحة المواطن ويتعارض مع توجهاتهم، ثم رأينا سرعة التفافهم حول بعضهم البعض، وما أحداث «1994» إلا أحد الشواهد على قدرتهم، ليس فقط على التأليب والتنظيم، بل والانقلاب، أو على الاقل إحداث شرخ عميق في أي بناء سياسي أو منظومة اجتماعية أو ثقافية. اليوم، سُحب البساط من تحت أقدامهم، ونُفضت الأرض منهم وتواروا بصمتهم، وأصبحت جريمة يحاسب عليها قانون غير معلن دفعهم إلى التواري في خباء الخوف من تهمة كانت قبلاً وسام شرف يتوجهم المجتمع به. هنا اسمحوا لي أن أتوقف عند نهاية سطر «الإقصاء» الذي كنا نتهمهم به، وهم اليوم يتجرعونه صامتين، وأسأل: هل كنا نريد حقاً هذا لهم، ونحن ندرك خطرهم؟ وهل يستمتع الليبيراليون تحديداً بهذا الإجراء العنيف والاقتلاع المباغت؟ أنا لست هنا مدافعاً عنهم، وموقفي منهم معروف ومحدد، أما نريد أن نقرأ تبعات كل هذه الإجراءات المباغتة بعقول راجحة ومنصفة، ما دامت المدرسة الليبيرالية المعتدة دائماً بالرأي والرأي الآخر عجزت عن تمثيل نفسها في شكل حقيقي، وهي التي تؤمن بتعددية وجهات النظر للبحث عن مسارات رؤيوية تصحيحية لمجمل الافكار، ولو لم يكن ذاك لما بقيت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية فاعلة ومؤثرة حتى اليوم في سياسات دول الكومنولث! إذ بدأت نبرة الانتقام والشماتة بادية في خطاب ليبيراليي السعودية من دون أن يسارعوا إلى استغلال الفرصة وتقديم أنفسهم لاحتلال المقاعد التوجيهية المفرغة من الصحويين لأجل تقديم نموذج مختلف، حضاري وبناء، عوضاً عن التصفيق والتطبيل مع عامة الناس، الذين لم يكونوا يرونهم شيئاً يستحق الاهتمام. كيف يمكن للوعي الليبيرالي السعودي أن يستند إلى معيار القوة لتصفية حساباته من خصومه الشرسين، وهذا لعمري يطرح أكثر من سؤال عن مدركات ومفاهيم الوعي الليبيرالي السعودي إن وجد؟ المخاوف التي تنتابني اليوم من إحداث فجوة مباغتة داخل مجتمعنا عجز الآخرون المدّعون بفجاجة عن ملئها، لأن 40 سنة من الحرث والزرع الإخواني الصحوي والحفر العميق داخل الـ«أنا» العليا لمجتمعنا تحتاج إلى سنوات أخرى مماثلة لإعادة الإصلاح والترميم، وإلا فإن ما سينتظرنا، مع كل النقلات السريعة التي نتابعها كمشاهدي فيلم خيال علمي، سيكون صعباً جداً عبر مقبل الأيام والسنوات. كنا نريد تصحيح مسار «الصحوة» لتكون وطنية بامتياز ومتفاعلة مع المتغيرات ومشاركة لكل الناس المختلفين والمخالفين في صياغة برامج تنموية محددة، ونزع سلطاتهم العليا من ضمير المجتمع، الذي تشرب ثقافتهم، وتوجيهها نحو المستقبل باستشراف كامل لاحتمالاته؛ السؤال: ما هو مصدر الخوف؟ أقول، وبناء على ما تقدم، أولاً: الخوف من مجتمعات لا تزال ملتاثة بفكر «الصحوة» ووعيها، التزمت الصمت مكرهة، أن تتحول ذات يوم إلى قيم سلبية مضادة. ثانياً: الخوف من مظاهر التغير التي تدخل اليوم حيز التجريب، ونحن نتفق على أننا غير ضامنين تماماً لنجاحها، ستوقعنا في مطب البدائل الصعبة! أخشى ما أخشاه أن نترحم ذات يوم على الماضي كما ترحمنا على كثير من الأشياء التي فرطنا بها، وليكن التعليم الذي فرغ من ضوضاء «الصحوة» هو أول ما نبدأ به وندفع عجلته ببرامج ومشاريع حقيقية تخفف من حدة المنعطف الذي يمر به.     * كاتب وروائي سعودي. almoziani@  

مشاركة :