الإسلاميون ينقلون جدل التطرف إلى التباس تأنيث الدعوة أو تذكيرهاالمنابر الدعوية جزء من البازار السياسي لدى الجماعات الإسلامية وإن ادعى بعض أدعياء الوسطية منها فصل الدعوي عن السياسي، وما الزج بالمرأة في هذه الألاعيب إلا محاولة للانقضاض على المجتمع من زاوية مختلفة تتستر باللين والسلمية واستنهاض القيم الحميدة وتستبطن مشروعا سياسيا. وأحدث الإسلاميون إرباكا جعل الرأي العام ينقسم بين مؤيد ومعارض عبر سجالات وهمية تبدو منطقية لكنها تلهينا عن طرح السؤال الجوهري: لماذا المنابر الدعوية من أساسها، وبصرف النظر عن جنس وهيئة من يمتطيها؟ وهل هي من سلم أولويات وحاجات مجتمعاتنا؟العرب حكيم مرزوقي [نُشر في 2017/11/13، العدد: 10811، ص(13)] يعمد السفسطائيون من الإسلاميين إلى تدوير الزوايا ومحاولة إضفاء المشروعية على ممارساتهم الدعوية المضللة عبر مناقشات مغلوطة من أساسها، مثل تجزئة قضية ما والبدء بمناقشتها في تفاصيل يلبسونها ثوب الفتوى في سلوك يهدف إلى إعماء الرأي العام وإلهائه عن النظر بعين النقد إلى بطلان ما يذهبون إليه. ومن بين هذه الألاعيب التي تعتمد التورية قضية المرأة الداعية ومقاربتها مع نظيرها الرجل الداعية.. وكأن ما ينقص مجتمعاتنا ليس السلوك الدعوي في حد ذاته فهو تحصيل حاصل بالنسبة إليهم بل: هل يجوز الاكتفاء بصيغته المذكر أم التوسع فيه من خلال النموذج المؤنث وعبر طرق إخراج مبتكرة؟ كلما أثير موضوع الداعيات الدينيات على الفضائيات أخذته الأطراف المتجادلة -بقصد أو بغير قصد- نحو سجال ثنائي القطب يتمركز حول خصائص كل من الأنوثة والذكورة في الخطاب الديني، والمفاضلة بين هذا وذاك في طرق الإقناع بما يخدم برامج الدعوة والتبليغ. هكذا تفرّغ الظاهرة من حقيقتها وحيثياتها وأبعادها ليُتَّجَهَ بها نحو التسطيح في نقاش يتناول -في أحسن حالاته- نقد مدى سيطرة الرجل واستحواذه على الخطاب الديني وكيف على المرأة أن تفتكّ المنبر الدعوي كحق مشروع وتأخذ مكانتها أسوة بالسلف الصالح من نساء الإسلام. وخدمة لهذا المشروع الذي يؤسس لمشروع أكبر، يتم حشر كم هائل من الأمثال والنماذج في الموروث الإسلامي بغرض المحاججة والتأكيد على أن من حق المرأة بل ومن واجبها أن تفتك مكانتها المشروعة في الدعوة وإن كانت “ناقصة عقل ودين”. يشوش الإسلاميون على ظاهرة النساء الداعيات كانتكاسة لدور المرأة الحقيقي في عصرنا وانحرافها عما هو مناط بها، ويلبسونها ثوبا يبدو في ظاهره تقدميا ليؤكدوا من خلاله على أنهم يقولون بالمساواة بين الجنسين ولا يفرقون بين رجل وامرأة إلا بمقدار خدمة كل منهما للمخطط الإسلامي الجهادي الذي وجب أن يعدّ له بما استطاعوا من وسائل التعبئة والإقناع والتسويق ضمن مشروع بات يعرف صراحة بـ”البزنس الديني”. صار من نكد الدنيا على المرء أن يتحزب الذكوريون من الناس إلى نجوم الدعاة الفضائيين على شاكلة عمرو خالد ووجدي غنيم ومبروك عطية أو تنتصر فئة ” الفيمينيست” و” الأوبن مايند” من الانفتاحيين لسعاد صالح وأمينة نصير وعبلة الكحلاوي وغيرهن، وهكذا يصبح الاصطفاف شكلانيا مثل الحرية في اختيار وسيلة التعذيب أو الإعدام. بتنا لا نناقش كيف ولماذا تركت واعتزلت هؤلاء الداعيات الفن والهندسة والطب وحتى تربية الأطفال والعناية بالزوج، ليتفرغن للظهور على الفضائيات الدينية وتفتي بعضهن بسفاسف الأمور وأسخفها. وصرنا نختلف في أيهما أقوم وأستر وأنفع للمرأة الداعية: أن تظهر في الفضائيات وتخاطب بصوتها كل الناس أجمعين أم تكتفي بالتوجه إلى بنات جنسها في الصالونات والبيوت المغلقة والحلقات شبه السرية في الأحياء الميسورة.. أمّا عن الأحياء الفقيرة فحدث ولا حرج، إذ التحقت من هذه الأحياء نساء كثيرات بالتنظيمات الجهادية دون حاجة إلى داعيات، وسلّمن أدمغتهن لتغسل مباشرة من طرف قادة الجهاد في الأحياء الشعبية أو حتى عبر المواقع الإلكترونية.استراتيجية تفكير الإسلاميين هي المناورة في جعلك تقبل بفتاواهم المعروضة بدل الخضوع إلى النماذج الأكثر قتامة إسلاميو تونس مثلا، يستثمرون في الإرث البورقيبي المتعلق بحقوق المرأة بخبث ظاهر يقدمهم كحضاريين متسامحين مقارنة بغيرهم فيدلّلون مثلا على انفتاحهم المزعوم بانتقادهم لفتوى الداعية السعودي عبدالرحمن بن ناصر البراك، القائلة بأن ظهور المرأة الداعية على شاشة التلفزيون بحجابها الشرعي، ولو لغرض الدعوة والفتوى، هو نوع من الفتنة التي ينبغي تلافيها. وكذلك تفعل جماعات الإخوان في بلدان عرفت تشريعات وقوانين أكثر مدنية من غيرها كتركيا، فتقدم نفسها على أنها تساند حقوق المرأة وتنبذ الغلو والتطرف عن طريق سماحها للمرأة الداعية بالنشاط والظهور العلني، وكأن هذا “السماح” إنجاز يصب في خانة الحقوق المدنية متناسين أن فكرة المرأة الداعية نفسها هي ضرب من الوصاية والتدجين والاستخدام المشين للمرأة من أجل مشروعهم السياسي، بل ولماذا المنابر الدعوية من أصلها؟ قد يقول قائل إن ما سبق ذكره يدعم فكرة مفادها أن المرأة مسلوبة الإرادة بطبعها، وهي بمثابة العجينة الطيعة بين أيدي السلطات الذكورية فتشكلها وتوجهها حيثما وكيفما شاءت. الجواب: نعم، هذا ما يراد لها أن تكون في فقه الإسلام السياسي، لكن ذلك ليس قدرها، فبإمكانها أن الخلاص من عقال هؤلاء وتؤسس لحياة حرة وفاعلة عبر انخراطها في مناخ من التنمية والتنوير. ثمة نساء استطعن الإفلات من هذه الفخاخ، وثمة أخريات وقعن في الشراك بمحض “إرادتهن المستلبة”. وهذا هو الإشكال؛ أي أن الكثير من النساء الداعيات هن في حقيقة أمرهن يدافعن بحرية وجرأة عن العبودية والانغلاق. لا شك أن البرامج والنشاطات الدعوية النسوية في غالبيتها فخّ استقطابي استفاد منه الإسلاميون -إن لم يكونوا هم قد نصبوه- وجعل نساء متعلمات ومثقفات ينتصرن لبنات جنسهن في ضرورة اعتلاء المنابر لأسباب تبدو منطقية ومقنعة لكنها في حقيقتها محفوفة بالمخاطر، ذلك أنها حكمت على فكرة المرأة الداعية منفصلة عن سياقها كقول الباحثة السعودية أسماء الرويشد، في دراسة لها “المرأة أكثر إدراكاً لخصوصيات المجتمع النسائي ومشكلاته حيث تجمعها معهن نفس الخصائص، كما تجمعها معهن فرص كبيرة وواسعة تمكنها من الاتصال بهن وأكثر إلماماً بما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الدعوي النسائي”.النشاطات الدعوية النسوية في غالبيتها فخ استقطابي استفاد منه الإسلاميون إن لم يكونوا هم الذين نصبوه الإسلاميون يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك في تعويم المسألة الدعوية ومحاولة تأصيلها في المجتمع بالمزيد من التهويم والتشتيت والمقارنات والمقاربات من خلال الاستقطاب الحدي بين دعاة السنة ودعاة الشيعة، وبين دعاة الإخوان والسلفيين من جهة والدعاة الرسميين من جهة أخرى، وكأن المسألة الدعوية هي من الضرورات والثوابت ولم يبق لنا إلا مناقشة تفاصيلها وصيغها. وفي هذا الإطار تتساءل الباحثة التونسية آمال قرامي: إلى أي مدى يتم الفصل بين الدعوي والسياسي، والأدلجة والروحنة؟ وتضيف قرامي في إحدى كتاباتها: أن تمارس فئة من النساء العمل الدعوي في إطار التمكين شيء.. ولكن ألا يعد هذا النشاط تكريسا لعبودية جديدة تقوض الحاجة إلى ترسيخ الفكر النقدي؟ ثم ألا يعد هذا النشاط منصهرا مع مشروع التغيير من “تحت” بعد أن استعصى التغيير من “فوق”. الخطة الاستراتيجية في طرق تفكير الإسلاميين وأساليب الإقناع لديهم، هي المناورة في جعلك تقبل بفتاواهم المعروضة بدل الخضوع إلى النماذج الأكثر قتامة لدى الشق الأكثر تطرفا فيهم. فحين تتساءل عن المرأة الداعية وتحاول الاستنارة والاستفادة في المواقع الاجتماعية تجد أمامك ركاما هائلا من الفتاوى الغريبة والمنفرة على شاكلة “حكم الدروس الصوتية للنساء الداعيات”، “حكم ظهور المرأة الداعية بحجابها على التلفاز”، “حكم مشاركة المرأة في برامج مصورة لأجل الدعوة”، “تحذير فضيلة الشيخ الألباني من النساء الداعيات” وغيرها. ساعتها تقول لنفسك في نبرة تشاؤمية: لأقبلنّ بالأيسر والأقل ضررا وتخلفا من غيره على طريقة “داروا سفهاءكم” ووفق القول المأثور: ارض بالسيء كي لا يأتيك الأسوأ.
مشاركة :