معظم الحوارات التي أجرتها الإذاعات والتلفزيونات في الماضي مع مفكرينا وأدبائنا قد آذاها التلف وطواها النسيان وجراء ذلك لا يطلع عليها الناس ولا تناقش الأفكار الواردة فيها.العرب أزراج عمر [نُشر في 2017/11/24، العدد: 10822، ص(15)] في هذه السنة عاد الكثير من مؤرخي الأفكار الأوروبيين/الغربيين إلى كتابات المفكر والأديب الفرنسي الشهير جان بول سارتر، وذلك بقصد البحث فيها عن العناصر الحيَّة التي لا تزال تقف إلى جوار الكتابات الفكرية الغربية الأكثر عصرية، وقد لفت انتباهي النقاش الدائر حول محاضرته الصادرة لأول مرة في عام 2016، عن دار فيرسو ببريطانيا، بعنوان “ما هي الذات”. حسب كلمة الناقد الثقافي الأميركي المعروف التي نشرت في ختام هذا الكتاب، فإن محتواه هو عبارة عن محاضرة ألقاها سارتر تحت هذا العنوان بالذات في معهد غرامشي بمدينة روما الإيطالية في شهر ديسمبر عام 1961 إلى جانب المداخلات والمناقشات النقدية الثرية التي عقبتها وشارك فيها عدد من أبرز المفكرين والنقاد اليساريين الإيطاليين في ذلك الوقت. ومن الملفت للنظر هو أن المسؤولين على أرشيف معهد غرامشي حافظوا بعناية فائقة على الشريط الذي سجلت عليه هذه المحاضرة والمداخلات على مدى خمس وخمسين سنة كاملة وعاملوها كجزء من تراثهم الثقافي/الروحي . وفي الواقع فإن سارتر أراد أن يناقش في عام 1961، ومن خلال هذه المحاضرة، مسألة معقّدة وخلافية تتمثل في زعم الكثير من المفكرين اليمينيين المتطرفين أن العقيدة الفكرية اليسارية تتميز بالانغلاق الكامل سواء على المستوى النظري أو على مستوى الممارسة، وجراء ذلك فإنها تمنع الذات الفاعلة والحرة من أخذ موقعها المستقل والمساهمة في صنع التاريخ، وحجتهم في ذلك هي إجماع نسبة كبيرة منهم على القول إن التزام الفكر اليساري التقليدي بتفسير التاريخ على أساس دور الطبقة فقط وليس الفرد في دفع عجلة التحول في المجتمع والتاريخ، هو السبب المباشر في خنق هذا الفكر للذات وإحلال إما مفهوم الفريق وإما مفهوم الجماعة محلها بشكل قطعي. لست هنا بصدد مناقشة دور الذات في المجتمع والتحول في التاريخ وإنما أريد الإشارة بعجالة إلى الفرق بيننا وبين الغربيين في المحافظة على السجالات الفكرية وتوثيقها، ومن ثم إحياء النقاش مجددا حولها، كما حصل ولا يزال يحصل مع أفكار سارتر المذكورة آنفا. وفي هذا السياق يلاحظ المرء أن معظم المحاضرات التي ألقيت في بلداننا لا تطبع في كتب ولا تعامل كجزء من أرشيفنا الثقافي والروحي، وبالعكس فإنها تهمل وغالبا ما تدفن بالكامل، ويلاحظ أيضا أن معظم الحوارات التي أجرتها الإذاعات والتلفزيونات في الماضي مع مفكرينا وأدبائنا قد آذاها التلف وطواها النسيان وجراء ذلك لا يطلع عليها الناس ولا تناقش الأفكار الواردة فيها على ضوء مستجدات واقعنا الراهن. كاتب جزائريأزراج عمر
مشاركة :