ودّع الصبرَ محبٌّ ودَّعكْ ذائعٌ من سره ما استودعكْ يقرعُ السنَّ على أن لم يكن زاد في تلك الخطى إذ شيعكْ يا أخا البدر سناءً وسنًى رحم الله زماناً أطلعكْ إن يطُلْ بعدك ليلي فلكم بتُّ أشكو قصر الليل معكْ بصدق.. لم أجد نصاً بهذه الروعة واللوعة والحميمية، من أجل أن أتوجد وأتلهف وأتحسر وأرثي (الاحترام والتقدير والإجلال) الذي كان يتمتع به المعلم في الأزمنة والمراحل القديمة بين طلابه، في ظل مقارنة حارقة مؤلمة بما يحدث الآن، إلى حد أن الكارثة تجاوزت محيط التعامل والصلة والأخذ والرد وتبادل المهمات وفهم المسافة التي ينبغي أن تكون بين المعلم وتلميذه واستيعاب شروط الاحترام والتوقير التي تسكن تلك المسافة، ووصلتْ إلى مصيبة انهيار القيم برمتها متمثلةً في قلة الأدب والسب والشتم ثم في الضرب والطعن والقتل. وذلك مما ظهر وبان في جملة من الأخبار والتقريرات الصحافية، وما من شك في أن هناك عديداً من الأحداث والقصص والحكايات لم تظهر ولم تبن لسبب ما! رحم الله زماناً كان الطالب فيه يرى أنموذجيته العالية في أستاذه! رحم الله زماناً كان التلميذ فيه يذوب هيبة ووقاراً أمام معلمه! رحم الله زماناً كان الطلاب فيه يلوذون ببيوتهم إذا شعروا بأن أستاذاً قد قارب الدخول إلى الساحة العامة، أو بأنه سوف يمر في الشارع الذي يلعبون فيه! رحم الله زماناً كان فيه التلميذ المذنب يقف أمام معلمه في سكونية ورهبة، فإذا بدأ المعلم في المعاتبة هلت دموع التلميذ على خده في مشهد مؤثر!! رحم الله زماناً كان فيه السلام على المعلم ومصافحته وساماً استثنائياً يفاخر به الطالب أقرانه! أسارع هنا، وأسجل أن كثيراً من الطلاب وعديداً من المناكفين في ما سبق سيقولون كذلك: (رحم الله زماناً كان فيه المعلم معلماً والأستاذ أستاذاً، وكانت الأنموذجية باذخة، والكفاية لا تخفى، وكان المعلم في مستواه وفي هيبته ووقاره وأخلاقه يحاول أن يرفع تلميذه إلى ذلك المستوى، أما الآن فقد تبدلت الأحوال وهربت الأدوار الحقيقية من ممثليها وانقلبت المعادلات ونسف السياق بكامله). غير أني أقول: إن من غير المعقول أن يذهب معلمٌ إلى مدرسته أو أستاذٌ إلى كليته وهو لا يحترم نفسه على الأقل، ومن ثَمَّ لا يضع في اهتمامه أن يكون أنموجاً في الشكل والمضمون وفي المعلومة والسلوك وطريقة الأداء، ومن بعد في التعامل والاتصال، ولذلك من المستبعد أن تنبعث الأسباب في مجملها من شخصية المعلم والأستاذ. ومع الاقتناع الواعي والإيمان الجازم بلغة المراحل والعهود، وبطبيعة تحولات الحياة والوجود، كذلك لا يمكن التفريط بجملة من القيم والمبادئ والأخلاقيات التي لا علاقة لها بأي دمار يلحق بالإنسان في أريحيته ونبله وصدق التزامه. على أنني أميل إلى أنَّ المعلم يتحمل جزءاً من مَهَمَّة المعالجة والإصلاح، لكن كيف يمكن تصور عملية التقييم والتقويم في هذا المشهد: معلم يقوم بالإشراف والمراقبة في قاعة اختبار فيكتشف أنَّ أحد تلامذته يغش ضارباً بالقيم والسلوك والنظام عرض انعدام المبالاة، فيقوم المعلم بواجبه المتمثل في سحب ورقة التلميذ وإلغاء اختباره كما هو متبع دون أن يُلْحِقَ به أيَّ أذىً معنوي أو جسدي، فيَثِبُ التلميذ على معلمه ويلحق به صنوف الأذى بما معه من الآلات الحادة من أعلى قمة رأسه إلى أسفل بطنه؟ من هنا، أعتقد جازماً بأن هذه المسألة الكارثية لا يمكن التوصل إلى عُقْدَةِ حَلِّها بكلام عابر في جلسة أو بكتابة مقيدة في زاوية، ولا حتى بنقاش حاد أو هادئ في ندوة. الإشكالية الإنسانية الحضرية هذه في حاجة حقيقية إلى دراسة ومعالجة وموقف وقرار يشترك في ذلك الخبير الواعي والراصد الاجتماعي والمفكر الخلاق والمسؤول المستنير، وهذه الإشكالية تنبغي المبادرة إلى اجتثاثها ومحوها من قاموسنا المدرسي والتعليمي، لأننا بسببها أصبنا برعب ورهاب مزدوج مضاعف إزاء ماضينا الذي لم نحسن توظيفه، وحاضرنا الذي لم نتحمل مسؤوليته، ومستقبلنا الذي سوف تسكنه أجيالنا المقبلة ولم نُهَيّئْهُ لهم كما يُفترض! أنتهي الآن من هذا التناول وأمامي جملتان أزليتان: (يا مثبت العقل ) -- (ما أطولك ياليل ).
مشاركة :