إن مرونة المعايير التي اخترعها الفرد البشري على مر تاريخه للزيادة في إمكانيات حياته وتقويتها، تنزع إلى الاختفاء من تفكيره، وأن الآلاف من الناس يعيشون في حالة استنفار دائم، ما يضني الجهاز العصبي ويشجع على تناسخ الفيروس المؤدي إلى الاضطراب، حسبما سجله الباحث الفيزيولوجي. وهكذا نبيّن أن الخطابات الكلاسيكية حول التحرر الفكري كانت وهمية تخضع للماضي الذي يرفض إفراده التغيير بدعوى الدين علما أن الدين الإسلامي صالح لكل العصور، فيما لا يمكننا أن نقيم فهماً واضحاً لهذه المستويات وتاريخها المضطرب، فالشك من النوازع العديدة المصاحبة للنشاط العقلاني، فكل ما حدث اليوم للشباب الذين ذهبوا إلى حرب مجهولة، كانت مجرد تركيبات مختلطة بين القديم والحديث، اختلفت نسبها وتداعياتها فأنتجت عقولا جديدة لم تنقطع عن التشكيك في كونيتها المزعومة، فإذا اقتضت المغالطات استدراج العقول واستهداف الشباب فعلينا رفع الالتباس والاجتهاد في إقصائه، فقد وردت عناوين مختلفة حول الجنون الذي تجاوز المعايير، وأفقد الإنسان القدرة على التمييز، ثم تم تشخيص معظم الحالات حسب درجاتها التي قدرها الأطباء والأخصائيون النفسيون، وكتبوا عنها نهاية ثابتة لأرواح تجزم برغبتها في حياة بسيطة ومتفاعلة. بيد أن جزءاً كبيراً من الناس يعاني من تشخيص غير دقيق، اندرج تحت لائحة الإقامة الجبرية في مصحات نفسية خلف الأسوار، إلى أن تفاقمت أسباب المغالطات ورسمت خطوطاً متقاطعة تفصلها عن العالم الخارجي. هو في ذاته مجتمع يختلف عن المجتمع الطبيعي وبعيد عن التشريعات والقوانين العقلية، إلا إذا أصبح مسالماً، وقد تبين أن العلاقة مقطوعة بين المريض النفسي ومجتمعه العائلي، ولن يبلغ تميزاً حسياً أو عقلياً وهو منبوذ، ومن جراء هذا الفصل تكبح الرغبات وترفض العلاج، فكثير من البشر غير الأسوياء خارج المصحات النفسية أشد خطراً. فلابد أن يكون المناخ الفكري بعيداً عن مخاطر الإثم المؤدي إلى الجنون، فالعمليات النفسية في اللاشعور هي منطقة افتراضية في النفس تحتوي الدوافع والذكريات والمخاوف والأحاسيس والوجدان والأفكار الممنوعة من الظهور، إضافة إلى الحرمان والاستبداد في فترة الطفولة حسب ما قرأنا من تحليلات نفسية قام بها سيغموند فرويد. هذا ما يدور حول المرضى النفسيين الذين يُعالجون في المصحات، ونحن سنأخذ منحى الإفادة المباشرة لعدة مظاهر تتصدر أفضل الإصدارات من المذكرات اليومية التي نقرأها ونسمع عنها، فلابد من إدراك ذلك المناخ القديم الذي صنع عالماً منعزلاً، يحاور ويشارك ويكتب ليثبت فقط أنك أنت المجنون والمتخلف والقاصر، وهو من بنى المفاهيم وصاغ المصطلحات وقطع أشواطاً بعيدة في الحياة. وهو في الحقيقة لا يعدو كونه مرتزقاً يقتات ليعيش واقعاً ذهنياً غير مطابق للواقع، ويقدم ترجمة غير صحيحة للأحداث، ففي هذا المقام نستطيع القول إن المجنون داخل المصحة أقل خطراً من آخر خارج الأسوار يفسد عقول العامة، ويظل حجر عثرة في مسيرة الأسوياء، فإن تضافرت الجهود قُضي على الخدع التي تدين الحياة وتجعلها أبشع من طبيعتها..
مشاركة :