قصص خارجة من مستشفى 601 تروي تاريخ الألم بقلم: عبدالله مكسور

  • 12/8/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الكاتب السوري جابر بكر الذي خاض مغامرة في جمع حكايات الناجين من أكثر المعتقلات السورية قسوة. العرب عبدالله مكسور [نُشر في 2017/12/08، العدد: 10836، ص(15)] بدأت القصة بفكرة حول فيلم وثائقي يحمِل في جوهره حكاية الناجين من دوائر الموت ضمن أقبية التعذيب في السجون السورية، تلك الأقبية المفتوحة على العدم وفقدان الذاكرة، لكن التفاصيل الكثيرة التي تجمّعت بين يدي الكاتب والصحافي السوري جابر بكر الذي تعرض أيضا للاعتقال بين عامي 2002 و2004، جعلته يعمل خلال ثلاث سنوات على تحويل الفيلم الوثائقي إلى حكاية روائية من ثلاثة فصول، تعتمد على الدوائر السردية المنفصلة المتصلة تحت عنوان “601- المحاكمات الإلهية”، نقطة الارتكاز في تلك الدوائر كانت المكان الذي اتخذ شكل بناء مكون من طابقين منعزلين ضمن مبنى مستشفى المزة العسكري الذي يقع في العاصمة السورية دمشق وتتخذه قوات النظام السوري مكانا لتعذيب المعتقلين وتصفيتهم جسديا. لكل صوت حكاية يقول جابر بكر إن صعوبة تحويل بوح الضحايا أو تحويلها إلى مادة بصرية دفعته إلى كتابة الرواية كعمل أدبي، متسائلا كيف من الممكن أن نحول حدثا مثل قيام شخص بحرق عشرة معتقلين إلى مشهد تمثيلي، في ظل غياب المعلومة البصرية الحقيقية المبنية على المشاهدات المباشرة التي تسرّبت سواء من الناجين أو من الصور التي سربها قيصر وتم عرضها في الكونغرس الأميركي وشاهدناها على وسائل الإعلام. هذا التحدي الحقيقي في عملية الكتابة ارتكز في سرده بكر على تجربة ذاتية كانت هي المعيار في معرفة اتجاه الحكاية ومستوى الصدق فيها. المقياس الداخلي الذي اعتمده الكاتب كان ينتمي في عمقه إلى معرفته الدقيقة بكلمات تمر في الحياة الطبيعية اعتباطا، بينما تحوي في قيمتها العديد من المعاني عند السجين، ماذا يعني الوجع؟، الفرح؟، الحزن؟، الحصول على رغيف خبز فائض عن الحاجة؟، عدم الخروج إلى التحقيق؟، الحصول على ثلاث دقائق إضافية في الحمام؟، هذه التفاصيل كانت تشكل الأرضية للحديث بموضوعية وليس بحياد، بحسب توصيف ضيفنا، عن إحساس الضحايا في السجن الذي حمل للمصادفة الغرائبية السحرية اسم “يوسف العظمة” الذي يحتل مكانة البطولة في الذاكرة الجمعية السورية. هذه المفارقات أيضا كانت انطلاقا لدوائر السرد الثلاث المتصلة المنفصلة لرواية حكاية “زيد” الاسم الافتراضي لبطل الحكاية “محمد” الذي يعيش اليوم في العاصمة الهولندية أمستردام. لكل شيء صوت في تلك الحكاية المبنية على الظلام، صوت السجين، صوت السجان الذي تم اقتباس عنوان الرواية من جملة يكررها دائما عن أن “المحكمة الإلهية حكمت عليك بالموت”، صوت آلة التعذيب، أصوات المهمّشين. يقول جابر بكر إنها حكاية التقاطعات المختلفة في البحث عن فكرة العدالة الغائبة، العدالة ليست وجهة نظر، إنها مختلفة في الفهم بين الشعوب والثقافات لهذا سعى بكر إلى إضفاء صفة الإنسانية على السجان كي يستطيع وضعه في قفص الاتهام، فماذا يعني دوام القول إن السجان قاتل حيواني، إن هذا التوصيف كما يراه ضيفنا يمنعنا من الوصول إلى فكرة القصاص وبالتالي لا يمكن محاكمة الذئاب مثلا في قانون الغاب لكن يمكن ترويض الكلب المسعور بتحويله إلى كلب أليف. نسأل ضيفنا عن فصله التام بين تجربته الذاتية وتجربة أصحاب الحكاية، ليقول إن ذلك يعود إلى اشتغاله طيلة سنوات خالية على ملفات حقوقية وتحقيقات صحافية، أبرزها الانتهاكات الجنسية التي يمارسها النظام السوري ضد معارضيه بشكل ممنهج. هذا الطريق قاده إلى لقاء مع محمد أو زيد صاحب الحكاية في مستشفى 601، حيث تعرض للاعتقال لعامين تقريبا قضى منهما ما يقارب السبعة أسابيع على سرير حديدي في المستشفى الذي يموت فيه يوميا بين 8 و12 شخصا. إنها الصدفة البحتة كما يصفها جابر بكر، تلك التي قادته إلى ذلك اللقاء الذي دفعه بدوره للمكوث أكثر من ثلاثين يوما في مخيم للاجئين في إحدى المدن الهولندية ملازما لصاحب الحكاية، حاثا إياه على البوح. يؤكد جابر أن المشكلة كانت في وجود الكاميرا وبعد إزالتها بدأت عملية بناء الثقة بين الطرفين تسير على أرضية صلبة.الرواية عمل توثيقي خاص ولكنه مرتبط بذاكرة ذاتية تحمل ارتكازات مع الذاكرة الجمعية، بدوائر سردية مغلقة ريبورتاج طويل عملية التسجيل بدأت الساعة الرابعة عصرا واستمرت أكثر من 16 ساعة متواصلة، مر بها البطل على المخابرات الجوية وزنزاناتها وصولا إلى 601، أسرّة بلا فرشات، محاليل دوائية فاسدة، القاذورات في غرف التعقيم الطبية، القتل المنظم خلال عمليات غسل الكلى، الموت حرقا، سلخا، جلدا، كسرا، وصولا إلى حالة الصور التي رأيناها تسريبا ضمن ملف قيصر الشهير. لقد نجا صاحب الحكاية ليروي عن جسده المدمى ورجله المشوهة، بينما كانت رسالة الكاتب التي رافقته منذ خروجه الأول من المعتقل “لقد خرجت إلى الحياة، خرجت إلى الوطن الذي تحول إلى سجن كبير، كان الانتقال من زنزانة صغيرة إلى معتقل مفتوح على المدن المختلفة”. يتابع جابر بكر “إنها أشكال مختلفة من القهر الذي يجب أن يروى، فهذا الحمام الدموي الذي يحمل اسم مستشفى 601 هو الصورة المقابلة للأحياء والمدن التي تعرضت وتتعرض للانتهاك بدءا من بابا عمرو في حمص مرورا بأحياء حلب ودرعا وحماة 1982، إنها فلسطين وأفريقيا، كل مكان تحدث فيه انتهاكات لكرامة الإنسان وحياته”. هذا العمل التوثيقي الخاص جدا والمرتبط بذاكرة ذاتية تحمل ارتكازات مع الذاكرة الجمعية، دوائر السرد فيه مغلقة تماما والشخصيات مبنية على فعل الهدم. الحدث في الحكاية هو الموت والاعتداء على الإنسان، أرادها (الحكاية) كاتبها أن تكون شهادة، فالفاصل هنا بين التاريخ والأدب هو خط بين مكانين يؤكده الأدب حين يقوم بواجب التوثيق أدبيا، هذه القصص كما يراها ضيفنا تشكل التاريخ الموازي أو غير المروي عن أولئك الذين سيتم ذكرهم بالأرقام فقط، وكل رقم منهم يشكل قصة. الأدب يقدم روايتين دائما تبعا لموقف صاحبه، ولنا في تاريخ الأدب شواهد عديدة على وجود صورتين متناقضتين تماما لحدث واحد تم تأريخه أدبيا. ويرى بكر أن هذه إحدى مشكلات تاريخنا الأدبي، فعلينا اليوم أن نسعى بوازع الواجب الذاتي إلى تأسيس الأدب النبيل. الحديث يقودنا نحو العمل الصحافي واستخدام جابر بكر للأدوات الصحافية في الاشتغال على المحاكمات الإلهية، ليقول إنه عندما قرر البدء بكتابة 601 وضع فرضية وبدأ في عملية الاشتغال على تثبيتها أو نفيها، الفرضية كانت “601 هو الجحيم المغفل في سوريا”، وفي طريق اكتشاف صدق أو خطأ هذا الطرح قابل العشرات من الأشخاص بين ضحايا أو مجندين سابقين أدوا خدمتهم الإلزامية في ذلك المكان، إنهم أشخاص يعرفون المبنى ويشرفون عليه من الداخل، وبالتالي قدموا معلومات مكنت الكاتب من التمييز بين أماكن متشابهة في الحدث. كل هذه الدوائر تنتمي في جوهرها إلى العمل الصحافي الاستقصائي إلى جانب العمل الحقوقي، لهذا أتت الرواية على شكل ريبورتاج طويل يحكي بكلمات كتِبت للصورة المتخيلة والمرئية في آن واحد عن ذلك المكان.

مشاركة :