يبدو أن الفلسطينيين والعرب، كانوا بحاجة لمثل الصدمة التي لم يكن إلا لواحد مثل هذا الرئيس المتهور أن يفعلها. ثلاث رؤساء أمريكيين تناوبوا كل لفترتين رئاسيتين منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، تميزت فترات رئاساتهم بالانحياز لإسرائيل، وآثروا إدارة ملف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مما جعلهم جزءًا من الأزمة، وليس جزء من الحل. تمتع الرؤساء الثلاثة كلينتون، و بوش الابن، وأوباما، بقدرة عالية على المناورة ومنح إسرائيل الكثير من الوقت، لكي تواصل مخططاتها التوسعية. كان الثلاثة قادرين على التضليل، وترك مساحة لمراهنة كاذبة، يمسكون من خلالها بكل الحبال، بدون أن يقدموا للفلسطينيين سوى المزيد من الأوهام، لإبقائهم مشدودين لأوهام المراهنة على دور أمريكي يتمتع ولو بالحد الأدنى من الحيادية والنزاهة والعدل. قليل الخبرة الذي يتميز بالتهور والاستعجال، هو الذي وضع حدا لمراهنات الفلسطينيين والعرب، الذين انتظروا صفقة القرن، فإذا بهم يتفاجؤون بتحولها إلى صفعة القرن. اختيار الرئيس دونالد ترامب لحسم ملف القدس لصالح إسرائيل قبل بدء المفاوضات حول الحل النهائي، كانت الصدمة بل اللطمة الأعنف، على وجوه الكل الذين راهنوا على هذه الإدارة، سواء بأن تقدم حلا لهذا الصراع أو لحماية الأوطان والأنظمة. تختار الادارة الأمريكية أن تصطف إلى جانب إسرائيل شريكة في مواجهة المجتمع الدولي بأسره، الذي قال لا صريحة لإعلان الرئيس ترامب القدس عاصمة أبدية للدولة اليهودية. ترامب لم يكتف بالاعتراف بل قاده تهوره إلى تأصيل علاقة اليهود بتاريخ المدينة العربية. لن يفيد الإدارة الأمريكية محاولاتها تجميل قبحها وخطورة قرارها الأرعن، فلا الحديث عن خلافات في الإدارة قد تدفع بعض أشخاصها للاستقالة، ولا حديث وزير الخارجية تيلرسون عن أن القرار قد لا ينفذ خلال سنة أو سنتين، وبأن القرار لا يحسم الوضع النهائي للقدس، فلقد كان ترامب شديد الوقاحة، ولم يكن ينقصه إلا أن يرقص على وقع موسيقى يهودية. الولايات المتحدة، وضعت نفسها في مقام الشريك الكامل والفاعل في كل ما تخطط له حكومة اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، بل إن الإدارة الأمريكية الراهنة تتماها في انتماء فريقها الأساسي يهودي الأصل والانتماء، مع فريق نتنياهو وسياساته. ما ينبغي أن يدركه العرب، هو أن ترامب الذي خذل الفلسطينيين لن يتورع عن خذلان العرب فالكلب المعروف بالوفاء، حين يعض صاحبه، فإنه يستحق أن يتحول إلى فرق كلاب الشوارع حتى لا نقول بأنه يستحق القتل. لقد عض ترامب كل أصحابه فلسطينيين وعربا ومسلمين وأجانب. ترامب عمليا وضع حدا لكل نهج المفاوضات طريقا للتسوية، وهو بذلك اختصر على الفلسطينيين والعرب المزيد من الوقت المهدور، والذي لا يستفيد منه سوى إسرائيل التي تمعن في سياساتها التوسعية والاستيطانية والتهويدية. ليس هذا وحسب بل إنه وضع الولايات المتحدة في المكانة التي تناسب طبيعتها كدولة استعمارية عدوة للشعوب وفي مواجهة المجتمع الدولي وأيضا في مواجهة القانون الدولي وكل ما تنطوي عليه الأمم المتحدة من دور وتراث إنساني وقوانين وقرارات. قبل أن يحسم الفلسطينيون أمرهم بشأن خياراتهم الأساسية، في ضوء فشل نهج التسوية وتقويض أي حل يقوم على أساس رؤية الدولتين، يبادر الرئيس الأمريكي لوضعهم أمام حقائق الواقع، وإرغامهم على البحث عن خيارات أخرى أكثر واقعية من النهج الذي ساروا عليه وتمسكوا به لأكثر من عقدين من الزمن. في راهن الأوضاع الدولية، لا يوجد طرف بديل عن الولايات المتحدة لا لإدارة هذا الملف ولا لحله، ولذلك فإن الفلسطينيين معنيون بحسم خياراتهم حتى لو تطلب الأمر، الاستمرار في اعتماد خطاب السلام ولغة القرارات الدولية من أجل الحفاظ على الزخم الدولي المناصر لحقوقهم. واقعيا حسم قرار ترامب الأمر نحو الانتقال إلى مربع الصراع المفتوح والشامل على كل الأرض والحقوق التاريخية، وهو صراع مفتوح على الزمن، يتطلب الحكمة أكثر من المغامرة كما يتطلب الوحدة. بيد الفلسطينيين أن يفشلوا كل محاولات الولايات المتحدة وإسرائيل لتطبيع العلاقات والانفتاح على العرب، فقضيتهم تملك حق الفيتو، وعليهم أن يثبتوا للعالم أنها مفتاح الحرب والسلام في المنطقة. قرار ترامب يمتحن الفلسطينيين والعرب في آن واحد، فهم إما ان يقبضوا على جمر قضيتهم وحقوقهم، أو تستفرد الولايات المتحدة ومعها إسرائيل بكل طرف على حده. على أن المسؤولية تقتضي القول: إن الفلسطينيين هم الذين عليهم أن يبلورا الموقف والسقف الذي يحدد سياسات ومواقف الدول العربية والإسلامية، لا أن يتوجهوا إلى الآخرين سائلين ما العمل. إن أول الواجبات غير القابلة للتأجيل أو التردد الملقاة على عاتق الفلسطينيين هي استعادة حركة فتح وحدتها، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، حتى يتسنى للكل الوطني المشاركة في تحديد الخيارات الأساسية التي تناسب المرحلة المقبلة.
مشاركة :