فيما تتصاعد حدة الصراع والتوتر، بين التحالف الأمريكي الإسرائيلي، وبين الفلسطينيين وإلى جانبهم بعض ما تبقى من العرب، وأغلبية عربية إسلامية تكتفي بالصراخ والشكوى، وإصدار بيانات الشجب والاستنكار، ينهض السؤال الابتدائي حول مستوى جاهزية الحالة الفلسطينية لخوض المجابهة، وتحمل تداعيات وأثمان القبض على الحقوق. خطير جدا ما تمارسه الولايات المتحدة وإسرائيل، وما ترتب له من مخططات لمصادرة الحقوق الفلسطينية الواحد تلو الآخر، ولكن يخطئ من يعتقد أن هذه المرحلة على خطورتها هي أخطر المراحل. لا قاع لما يجري تدبيره من مخاطر لتصفية القضية الفلسطينية، والمسألة هنا ليست مسألة أرض وحقوق فقط، وإنما تمتد لتهدد الوجود الفلسطيني، بمعنى وجود الإنسان الذي يخوض الصراع على أرضه. يطغى على الخطاب السياسي العام، طابع المطالبات، مرة للمجتمع الدولي وأخرى للعرب والمسلمين لتحصيل الحد الأدنى من استحقاقات تطول قائمتها، دون أن يدرك الفلسطينيون أن هذه المطالبات لا تعدو كونها ذرائع تتحول إلى هراء سياسي ما لم يبدأوا هم بتحضير أنفسهم لخوض هذا الصراع المرير، فإن كان ثمة مراهنة على أظافر خارجية لحك جلودهم، فإن المثل الشعبي يقول لا يحك جلدك إلا ظفرك. ما يزال الفلسطينيون يخوضون معاركهم ضد بعضهم البعض، حول أحقية السيطرة على المؤسسة والقرار، بالرغم من معرفتهم الأكيدة أن ذلك يتسبب في خدمة المخططات الإسرائيلية الأمريكية، طالما أنه يؤدي إلى تقويض عوامل صمود الفلسطيني على أرضه، ويدفعه للتفكير في خوض غمار الهجرة على ما تنطوي عليه من مغامرة. إذا كان ثمة من ضرورة مستعجلة لتغيير الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية بما يمكن الفلسطينيين من التعامل مع المرحلة الجديدة، فإن الهدف الواقعي والأهم لمثل هذه الاستراتيجية، ينبغي أن يكون تعزيز صمود الإنسان الفلسطيني وتعزيز قدرته على البقاء، ومقاومة كل الأسباب التي تدعوه للبحث عن فضاءات أخرى. من البديهي أن الصراع على الأرض والحقوق، يعتمد على وجود وقوة الإنسان الذي سيخوض هذا الصراع وباعتباره العنوان الأبرز المستهدف من قبل التحالف الأمريكي الإسرائيلي. الغريب في الأمر والمحزن أن الكل في المحصلة ومن مواقع مختلفة يشتغل على تقويض صمود الإنسان الفلسطيني. أمريكا تستخدم الضغط والابتزاز لإخضاع السياسة الفلسطينية والشعب الفلسطيني أيضا، وإسرائيل تمارس سياسة العقاب الجماعي بحصارها لقطاع غزة واستيطانها للضفة والقدس، والمجتمع الدولي يتساوق لأسباب سياسية، فيقلص دعمه المالي للمؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في القطاع، والسلطة ماتزال تمارس سياسة الضغط على سكان القطاع بدعوى الضغط على حركة حماس، وحركة حماس تدير جماعة ولا تدير مجتمعا، ومعبر رفح مغلق لأسباب متداخلة وملتبسة. المؤسسات الدولية كانت قبل سنوات قد أعلنت أن قطاع غزة لن يعود صالحا للحياة بحلول العام 2020، غير أن فحص هذا الاستنتاج مجددا سيصل إلى أن قطاع غزة ليس صالحا للحياة اليوم، بل الأمس القريب. مليونان من الفلسطينيين يعيشون حياة مزرية إلى أبعد الحدود، فإذا تجاوزنا مسألة تلوث المياه والبيئة، وانهيار قطاع الخدمات الصحية والتعليمية، فإن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية هي الأخرى في حالة انهيار كامل. مؤلمة مشاهد الفقراء وهم الأغلبية من السكان وهم يبحثون عن الطعام في حاويات القمامة، والصبايا والأطفال وهم يتسولون أمام المخابز وفي الأسواق وعلى مفترقات الطرق. القطاع الخاص يعاني من الإفلاس، ولم يعد التجار قادرون على الاستيراد، بسبب تكدس البضائع وتدني القدرة الشرائية، المحاكم طافحة من المشتكين من الشيكات المرجعة، وتتزايد المشكلات والخصومات بين الناس، ومعبر كرم أبو سالم يعاني من شبه بطالة حيث لم يعد يدخل إلى القطاع أكثر من مئتي شاحنة يوميا، في حين كان يمر عبره أكثر من ثمانمائة شاحنة. الأسواق مليئة بالبضائع التي يعرضها أصحابها بأثمان زهيدة نظرا للكساد وحاجة التجار للسيولة المالية لتسديد ما عليهم من مستحقات، الفقر حتى العوز كافر، مما يجعل الحديث عن إمكانية وقوع الانفجار أمرا حقيقيا، ولكن الاستنتاج الواقعي الأهم هو أن نسبة من يرغبون ويتحضرون للهجرة في حال فتح المعبر بصورة معقولة هي في ازدياد، وتؤشر إلى خطورة بالغة. لا فائدة من مواصلة كيل الاتهامات لإسرائيل التي تسعى وراء تنفيذ مخططاتها، فالفلسطينيون يتحملون جزءا أساسيا من المسؤولية، طالما بقيت حسابات الفصائل الرئيسية، تتجاهل أولوية الاهتمام بتعزيز صمود الإنسان على الأرض. والأكيد أن استمرار المماطلة والتأجيل لتحقيق المصالحة من شأنه أن يؤدي إلى انضمام المزيد من الناس الذين يرغبون وينتظرون لحظة توفر إمكانية للهجرة، وحين ذاك لن ينفع الندم وعض الأصابع، والتهرب من المسؤولية.
مشاركة :